العصر الاموى الحياة والفنون الادبية |
الحياة الادبية فى العصر الاموى
الثقافة
لقد نشات فى العصر الاموي حركة ثقافية كبيرة وواسعة وانتشرت المعرفة بين طبقات المجتمع وكان لازدهار الحركة الثقافية اثره العظيم في سير اتجاه الشعر وتطوره كانت الثقافة الاموية مكونة من ثقافات جاهلية قبلية واسلامية وثقافة مختلطة نشات من تاثير الاجانب في الشرق والغرب الذين فتحت بلادهم واصبحوا تحت سيطرت الحكم الاموي حيث طوروا الاساليب الثقافية وفق احتياجات الدولة والمجتمع الذي سما الاى الرقي والتوسع في المعرفة ومن ذلك تعريب الدواوين الحكومية وصك العملة الاموية والتمازج الثقافي بين اللغات الفارسية والهندية والرومانية من جهة واللغة العربية من جهة اخرى وتفتح اذهان المثقفين من الشعراء والعلماء واطلاعهم على ثقافات جديدة كل ذلك انعكس ايجابا على معاني واساليب الشعر في هذا العصر واتضح جليا في قصائد الشعراء سواء كان في المعنى او المضمون او الاساليب الاان القوالب الشعرية بقيت على حالتها ذلك ان الاذن العربية الفت سماع الشعر علىاوزان خاصة وبموسيقى محددة.
الفنون الأدبية في العصر الأموي
بلغت الفنون الأدبية التي سبق الحديث عنها في صدر الإسلام مستوى رفيعاً من النضج والنماء في العصر الأموي وهي: الشعر والخطابة والكتابة، وذلك لتضافر الكثير من العوامل.
الشعر
اتجاهات الشعر في العصر الأموي: بظهور الأحزاب السياسية في العصر الأموي ظهر لون جديد من الشعر لا عهد للعرب به من قبل هو الشعر السياسي، فكانت الأحزاب المصطرعة على الحكم تستعين بشعرائها لتأييد دعوتهم ومبادئها ومنافحة خصومها، فكان لكل من الأمويين والخوارج والشيعة والزبيرية ومعارضي الحكم الأموي عامة شعراؤهم الناطقون بلسانهم، الذائدون عنهم. وقد بلغ الشعر السياسي من جراء هذا الصراع غايته من الارتقاء والانتشار حتى كاد الطابع السياسي يغلب على جل الشعر المقول عصرئذ، وكان الشعر أمضى الأسلحة في مناهضة الأعداء والذود عن مبادئ الجماعة السياسية في ذلك العصر، ومن هنا كان بنو أمية حراصاً على اصطناع الشعراء المجيدين وإغداق الأموال عليهم.
وكان شعراء الحزب الأموي أكثر شعراء العصر الأموي احتفالاً بتنقيح شعرهم وتهذيبه والعناية بالبناء الفني لقصائدهم ليأتي شعرهم في الصورة المكتملة فنياً إرضاء لممدوحيهم، ولكن شعرهم كان في جله يخلو من الصدق لأن الدافع إلى قوله كان الرغبة في العطاء، ولهذا لا يدهش الباحث أن يرى بعض شعرائهم ينقلبون على ممدوحيهم إذا قلب لهم الدهر ظهر المجن أو أصابهم غضب السلطان، صنيع الفرزدق مثلاً بالحجاج بعد موته وهجا قتيبة بن مسلم بعد مصرعه إرضاء لسليمان بن عبد الملك، وكان قد مدحهما قبل ذلك.
وكان شعراء هذا الحزب يستعينون بطائفة من الحجج لدعم سلطان بني أمية، فهم الذين اختارهم الله لتولي أمور المسلمين ولا راد لمشيئته، وهم أفضل من يتولى الخلافة لما اتصفوا به من عدل وسماحة وحزم وتقوى، وهم ورثة عثمان وأولياؤه، إلى غير ذلك من الحجج.
أما شعراء الخوارج فكان شعرهم يمثل الالتزام العقدي خير تمثيل، فهم إنما وقفوا إلى جانب هذا الحزب بدافع إيمانهم بمبادئه وتشربهم عقائده، لا رغبة في عطاء أو مغنم، ومن هنا اتسم شعرهم بالصدق وتوقد العاطفة. وكانوا يقولون شعرهم عفو البديهة، ولا يجنحون إلى تكلف أو تهذيب، لأنهم ما كانوا يتوخون إرضاء ممدوح أو اجتلاب مغنم، وقد جعلوا شعرهم مجتلى مشاعرهم ومعرضاً لمبادئهم، وعلى أن النثر أقدر على بيان المعتقدات والاحتجاج لها من الشعر نجد أنهم استطاعوا عرض طائفة من معتقداتهم في شعرهم كقولهم بالتساوي بين المسلمين جميعاً في حق تولي الخلافة، لا فضل لقبيلة على أخرى، وكذهابهم إلى إنكار التحكيم بين علي ومعاوية وتكفير علي لقبوله إياه، وغير ذلك من معتقداتهم.
وقد نحا الشيعة نحو شعراء الخوارج في التزامهم بيان معتقداتهم والاحتجاج لها في أشعارهم وعزوفهم عن التكسب بشعرهم - إلا قلة منهم - وكان أقوى حججهم قولهم بأن قريشاً أولى بتولي الخلافة من جميع القبائل وأن آل البيت هم أولى أسر قريش بهذا الأمر لقرابتهم من رسول الله e، وكانوا يأخذون على بني أمية اغتصابهم حق بني هاشم وعدم أخذهم بالكتاب والسنة في سياستهم أمور المسلمين.
وقد شهد العصر الأموي ازدهار فن آخر من فنون الشعر هو الشعر الغزلي الذي تفتحت براعمه في صدر الإسلام، وقد توافرت جملة من الدواعي لازدهار هذا الفن بأنواعه الثلاثة: الحضري والبدوي والنسيب. ازدهر الغزل في حواضر الحجاز، مكة والمدينة والطائف، وكان شعراء الغزل الحجازيون منصرفين في كثرتهم إلى اللهو وسماع الغناء والتعرض للنساء، وقد وجدوا بين أيدهم وفرة من المال أفاءته الفتوح على قومهم فلم يحتاجوا إلى الكد في سبيل كسبه، كما وجدوا أنفسهم بعيدين عن مواطن الصراع السياسي في الشام والعراق وخراسان، فانصرفوا إلى الشعر الغزلي وافتنوا فيه افتناناً ارتقى به إلى مرتبة رفيعة لم يبلغها الشعر العربي في أي عصر من عصوره. وكان رائد هذا اللون من الغزل الشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة.
والضرب الثاني هو الشعر الغزلي البدوي الذي ازدهر في بوادي نجد والحجاز خاصة، وقد عرف هؤلاء بصدق عاطفتهم وعفتهم، ومنهم من قاده عشقه إلى الهلاك، وزعيم هذه الطائفة جميل بن معمر [ر] الذي اشتهر بحبه لبثينة.
وقد وقف هؤلاء وأولئك جل شعرهم على الغزل ونهضوا بهذا الفن وأخصبوه بمعان جديدة وصور مبتكرة لم يعرفها الشعراء قبلهم.
والضرب الثالث من الغزل هو النسيب الذي كان الشعراء يأتون به في مطالع قصائدهم، وقصائد المديح خاصة. وقد ارتقى النسيب كذلك والتزمه الشعراء في مطالع جل قصائدهم، وأطاله بعضهم إطالة تلفت النظر كجرير بن عطية.
وقد أدى احتدام العصبيات القبلية عصرئذ إلى وفرة الشعر المقول بدافع العصبية وهو الشعر القبلي. وإلى ظهور ضرب من الشعراء متصل بهذه العصبية وهو المناقضات. وكان الجاهليون قد عرفوا طرفاً من هذه المناقضات ولكن لم يتح لها أن تذيع وتكثر في ذلك العصر. فلما كان العصر الأموي أقبل الشعراء على المناقضات وأكثروا منها إكثاراً يلفت النظر، وكان النصيب الأوفى منها لشعراء الثالوث الفحول: جرير والفرزدق والأخطل، حتى لقد اجتمع لهم منها دواوين ضخمة.
ولهذا الضرب من الشعر أصول التزمها الشعراء المتناقضون، ومنها اتفاق القصيدتين في الوزن والقافية، ونقض كل شاعر معاني خصمه. وقد نهض هذا الفن على أيدي شعراء العصر الأموي وبلغ غاية لم يبلغها في العصور الأدبية الأخرى. على أن مما يشين النقائض ما احتوته من بذاءة لفظية وفحش وهتك للعورات.
وكانت المناقضات تدور في إطارين: إطار العصبية الواسعة بين الجذمين: العدناني والقحطاني، أو بين فرعي عدنان: مضر وربيعة.
والإطار الثاني هو إطار العصبية الضيقة بين قبائل تمت كلها إلى أصل واحد، كالمناقضات بين بني يربوع وبين دارم، وكلاهما من تميم، وشعراء هذه المناقضات هم جرير والفرزدق والبعيث، وكالمناقضات بين ابن ميادة المري والحكم الخضري، وكلاهما من قيس عيلان.
وثمة لون آخر من الشعر عرفه العصر الأموي هو الشعر الزهدي، وهو شعر أوجدته حركة الزهد التي شهدها العصر الأموي وإن لم تبلغ فيه غايتها.
وقد شهد العصر الأموي كذلك ازدهار فن الرجز وظهرت فيه طبقة من الرجاز نهضوا بهذا الفن ونحوا به نحو القصيدة وأطالوه إطالة مسرفة.
خصائص الشعر في العصر الأموي
حين يحاول الباحث تقصي خصائص الشعر في عصر بني أمية لا بد له أن يقف عند كل ضرب من ضروب الشعر التي ظهرت عصرئذ لئلا يقع في تعميم يبعده عن الدقة وأول الفنون الشعرية فن المديح.
فقد ظهر في العصر الأموي شعراء اتخذوا الشعر حرفة يتكسبون بها وأكبوا على العناية بشعرهم وتجويده وهم الشعراء المداحون، وقد نفقت سوق الشعر عصرئذ لتقريب الخلفاء والولاة الشعراء وإغداق الهبات عليهم، فراح الشعراء يتنافسون في تجويد شعرهم وتنقيحه بغية إرضاء الممدوحين والنقاد، وكان لهؤلاء الشعراء الفضل في الاتجاه بالقصيدة العربية نحو النموذج الفني المكتمل، سواء من حيث بناؤها الفني أو من حيث إتقان الصياغة ومتانة الأسلوب واستنباط المعاني الجديدة.
وقد التزم هؤلاء الشعراء بناء القصيدة في صورته النموذجية، فهم يحرصون على استهلال قصائدهم بالوقوف على الأطلال والتخلص من وصف الأطلال إلى النسيب، يطيلون فيه تارة ويوجزون تارة أخرى، ثم ينتقلون إلى وصف الرحلة إلى الممدوح فيصفون الطريق وما لقوه فيه من أنواع الحيوان، وما كابدوه من مشقات السفر، حتى ينتهوا إلى المديح فيفيضون في تعداد مناقب الممدوح ومآثره من كرم وشجاعة ونبل محتد وغير ذلك، مع جنوح إلى المبالغة والتزويد. فإذا فرغوا من المديح هزوا أريحية الممدوح إلى العطاء حتى يبسط كفه لهم، وربما جنح بعضهم إلى شيء من الضراعة والإلحاح في الاستعطاء.
إن جنوح شعراء العصر الأموي إلى التكسب بشعرهم لم يكن ظاهرة جديدة في الشعر العربي، فقد بدأ الاتجاه إلى التكسب بالمديح منذ أواخر العصر الجاهلي، ولكن هذا الاتجاه لم يلق قبولاً لدى الكثيرين، فلما جاء العصر الأموي استشرت هذه الظاهرة وغلب المديح على فنون الشعر الأخرى وتبوأ المنزلة الأولى بينها، وظلت للمديح هذه المنزلة طوال العصر العباسي بعد ذلك.
وحين تصدى الباحثون لتقويم هذا الشعر من الناحية الفنية اختلفت آراؤهم، فمنهم من رأى أن هذا الاتجاه أضر بالشعر العربي وانحرف به عن مساره القويم وحط من منزلة الشعراء، لأن الشعر عندهم ينبغي أن يكون صدى الشعور الصادق وتصويراً للعواطف الذاتية، بعيداً عن النفاق والكذب والزيف، ورأى آخرون أن المعول على إجادة الصياغة وابتكار المعاني وليس على صدق العاطفة أو كذبها.
وعلى نحو ما لوحظ في شعر المديح من إتقان الصنعة يلاحظ هذا الإتقان كذلك في فن الغزل الذي أصاب في عصر بني أمية ارتقاء لا نظير له، فقد افتن الشعراء - حضريهم وبدويهم - في ابتكار المعاني الغزلية التي لم تخطر في بال أسلافهم. ولو رجع الباحث إلى شعر ابن أبي ربيعة وحده لوجد فيه فيضاً من المعاني المبتكرة التي لم يسبق إليها، مع اتباع أسلوب جديد يلائم هذا الغزل. وشتان ما شعر شعراء الغزل الجاهليين وشعر الإسلاميين، سواء من حيث ابتكار المعاني أو الافتنان الأسلوبي أو التعبير عن العواطف وتصويرها.
ومن الفنون الأخرى التي طرأ عليها التجديد فن الخمريات. وقد نهض خاصة على يد الأخطل والوليد بن يزيد.
وفن آخر أصاب حظاً وفيراً من التطور والارتقاء في العصر الأموي هو فن الهجاء والمناقضات، فقد نقل شعراء الهجاء في ذلك العصر الهجاء من صورته البسيطة الساذجة عند شعراء الجاهلية إلى صورته المتقنة المعقدة، واستعانوا بألوان الثقافة التي انتشرت عصرئذ العقلية والدينية والأدبية لإسباغ ثوب جديد على هذا الهجاء. فظهرت فيه أساليب جديدة، وافتن الشعراء في ابتكار المعاني والصور الهجائية، وجنحت طائفة من الشعراء الهجائين إلى البذاءة اللفظية والصور الفاحشة ونهش الأعراض وذكر العورات. وقد تطور فن المناقضة بنوع خاص وأصبح للنقائض شروطها وأساليبها وطالت طولاً مسرفاً، فكان العصر الأموي بحق عصر نهوض فن النقائض وارتقائه.
وتتجلى في بعض أغراض الشعر الأموي روح إسلامية قوية مؤثرة تترك صداها العميق في النفس. ومن المحقق أن القرآن الكريم كان له أثره البين في الشعر الأموي، سواء من حيث الأغراض أو المعاني أو الأسلوب.
أعلام الشعراء في العصر الأموي
كان لكل حزب من الأحزاب السياسية شعراؤه الناطقون بلسانه، وكان من أبرز شعراء الحزب الأموي جرير والفرزدق والأخطل، وهؤلاء الثلاثة كانوا في الوقت عينه أشهر شعراء المناقضات في ذلك العصر. وقد اتصل جرير أول الأمر بالحجاج والي العراق ثم وفد على عبد الملك بن مروان واتصلت بعد ذلك مدائحه له ولمن جاء بعده من الخلفاء. أما الفرزدق فلم يكن هواه في بني أمية ولكنه مدحهم طمعاً في العطاء. واتصل الأخطل ببني أمية منذ زمن يزيد بن معاوية واجترأ على هجاء الأنصار وكاد معاوية أن يقطع لسانه إرضاء لهم لولا تدخل يزيد، ثم أصبح بعدئذ شاعر بني أمية الأول.
ومن شعراء الحزب الأموي عبد الله بن همام السلولي، وعبد الله بن الزبير الأسدي، وعدي ابن الرقاع العاملي، والنابغة الشيباني، والبعيث المجاشعي، وأبو صخر الهذلي، وأبو العباس الأعمى الذي ظل على وفائه لبني أمية حتى بعد انقضاء دولتهم.
أما الحزب الخارجي فأشهر شعرائه الطرماح ابن حكيم الطائي [ر] وقد كانت بينه وبين الفرزدق مناقضات كثيرة، وعمران بن حطان الذهلي [ر] رئيس القعدة من الصفرية وشاعرهم، وقطري بن الفجاءة [ر]، وقد بايعه الأزارقة أميراً للمؤمنين ثم انتهى أمره بالقتل، ومن شعرائهم كذلك عمرو بن الحصين، ومعاذ ابن جوين، ويزيد بن حبناء.
ومن الشعراء الذين ناصروا الحزب الشيعي الكميت الأسدي [ر]، وكان من الزيدية، وقد قال في مديح بني هاشم قصائد مطولة سماها «الهاشميات»، ومنهم كثير بن عبد الرحمن [ر]، وكان من الكيسانية، ولكنه لم ينقطع إلى مديحهم بل قال أيضاً مديحاً في بني أمية فضلاً عن شعره الغزلي. ومنهم كذلك أبو طفيل عامر بن واثلة، وسليمان بن قتة، وعوف بن عبد الله بن الأحمر.
ولم يقف في صف الحزب الزبيري إلا شاعر واحد هو عبيد الله بن قيس الرقيات [ر] وكان بينه وبين مصعب بن الزبير صداقة وطيدة وقال جلّ شعره في مدحه.
وثمة شعراء أيدوا الثورات والفتن التي نشبت في العصر الأموي ومنهم أعشى همدان [ر] الذي ناصر عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته وحرضه على قتال الحجاج، وقد ظفر به الحجاج بعد إخماد الثورة وقتله، ومنهم أبو جلدة اليشكري الذي ظاهر كذلك ابن الأشعث، وانتهى الأمر بمقتله.
وكان ثمة شعراء يرافقون المسلمين في فتوحهم، ويحرضون المقاتلين أو يقولون الشعر في مديح قادة الجند والفاتحين، وأشهر هؤلاء كعب الأشقري الأزدي الشاعر الفارس، وقد شارك في قتال الأزارقة مع المهلب بن أبي صفرة، وله شعر مقول في فتوح ما وراء النهر ومديح قتيبة بن مسلم.
وفي ميدان الشعر الغزلي ثمة شعراء أصابوا شهرة بعيدة، وجلهم ينتمون إلى الحجاز ونجد، وشاعر الغزل الحضري غير المدافع هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، وكان يعيش في بحبوحة ورغد فلم يجد ما يشغله فالتفت إلى التغزل بالنساء وأجاد هذا الفن وكانت له فيه منزلة الريادة.
وممن أجاد هذا اللون من الغزل أيضاً عبد الله بن عمر العرجي [ر] الذي ينتهي نسبه إلى عثمان بن عفان، وقد سبب له تعرضه لنساء الأشراف الأذى والسجن ومات في سجنه. ومنهم الحارث بن خالد المخزومي، وقد ولاه عبد الملك على مكة حقبة من الزمن، ومنهم أبو دهبل الجمحي، وجل شعره مقول في امرأة اسمها عمرة. وبرز من الأنصار شاعر غزلي مشهور هو الأحوص عبد الله بن محمد الأوسي [ر]. وكان يتعرض لنساء المدينة ذوات الشأن فنفاه عاملها إلى جزيرة دهلك.
أما الغزل البدوي فكان رائده الأول جميل ابن معمر الذي تعشق بثينة وقال جل شعره في التغزل بها فنسب إليها. وقد تتلمذ له شاعر مشهور هو كثير بن عبد الرحمن الذي تغزل بعزة ونسب إليها. ويبدو أنه لم يكن صادق الصبابة، على نقيض أستاذه، وقد سبق القول آنفاً أنه كان من شعراء الشيعة، وكان إلى ذلك كله مداحاً لعبد الملك وبني أمية.
ومن شعراء الغزل أيضاً قيس بن الملوح الذي عرف بمجنون ليلى [ر]. وقد أصبحت قصته نموذجاً للحب العذري الصادق الذي يقود صاحبه إلى التلف والهلاك.
وممن لقي مصير المجنون كذلك عروة بن حزام الذي تعشق ابنة عمه عفراء فلما أخفق في الزواج منها استطير عقله وظل يهذي بحبها حتى مات.
ومن هؤلاء الشعراء كذلك قيس بن ذريح [ر] الذي أحب لبنى الخزاعية وناله الإخفاق في حبه.
إن قصص العشاق العذريين تتشابه في أنها تدور كلها حول إخفاق الشاعر في الزواج ممن أحب وانتهاء أمره بالموت أو الجنون أو الجلاء عن الديار.
وثمة شاعر غزلي عفيف كان في الوقت عينه فقيهاً محدثاً هو عروة بن أذينة الكناني [ر]، وشعره يمثل الشعر الغزلي الحضري العفيف.
ومن أعلام الشعراء الغزليين من أهل البادية ذو الرمة غيلان بن عقبة [ر]، وكان يتغزل بفتاة اسمها مية، وهو أبرع من وصف الأطلال والديار، وغزله عفيف بعيد عن الفحش، وقد شهد له بالتقدم في الغزل فحول الشعراء عصرئذ.
واتجهت طائفة من شعراء العصر الأموي إلى وصف الخمرة، وممن برزوا في هذا الفن الأخطل التغلبي والوليد بن يزيد.
ومن أعلام الشعراء الذين تناولوا الشعر الزهدي والوعظي عروة بن أذينة الذي جمع بين الغزل العفيف والزهد، وأبو الأسود الدؤلي [ر]، وسابق البربري، ورابعة العدوية [ر].
وفي مقدمة الرجاز الأغلب بن عمرو العجلي، وأبو النجم المفضل بن قدامة العجلي [ر]، والعجاج بن عبد الله التميمي [ر]، وابنه رؤبة [ر] الذي أدرك العصر العباسي.
ومن الشعراء الذين نافحوا عن قبائلهم القطامي عمير بن شييم التغلبي [ر]، وقد وقف إلى جانب بني تغلب ونافح عنهم حتى ثارت الحرب بينهم وبين قيس عيلان، ومنهم أيضاً عبيد بن حصين النميري المشهور بلقب الراعي [ر]، وكان من فحول شعراء العصر الأموي، ويعد من الشعراء الذين نصروا الحزب الأموي وله قصائد في مديح بعض خلفاء بني أمية.
الخطابة والمناظرات
ضروب الخطابة في العصر الأموي: عرف العصر الأموي أنواع الخطابة التي كانت شائعة في صدر الإسلام، إضافة إلى أنواع جديدة أوجدها تطور الحياة الفكرية والأحداث السياسية والاجتماعية وظهور الفرق الدينية والكلامية.
وفي مقدمة الأنواع الخطابية التي ازدهرت عصرئذ الخطابة السياسية، وقد توافرت جملة من العوامل لازدهارها من ذلك الصراع على الحكم، فإن استئثار بني أمية بالحكم وجعله وراثياً بعد أن كان شورياً أثارا معارضة عنيفة من قبل فئات سياسية مناوئة للحكم الأموي وأبرزها: الحزب الخارجي، الحزب الشيعي،والحزب الزبيري، فضلاً عن نشوب ثورات تتوخى القضاء على الحكم الأموي كثورة ابن الأشعث وثورة ابن المهلب.
أدت وفرة الأحداث والصراع بين الأحزاب السياسية إلى ازدهار الخطابة السياسية ازدهاراً لم تشهد نظيره في أي من العصور، إذ كان لها الشأن الأول في استمالة الأنصار ومقارعة الخصوم وإرهاب الثائرين وتشجيع المناضلين وعرض حجج كل من الأحزاب المصطرعة ومناظرة أعدائهم.
ويتصل بالخطابة السياسية الخطب الحربية، فقد استدعت حركة الفتح الإسلامي التي بلغت مداها الأقصى في عصر بني أمية وجود خطباء يذكون وقد الحماسة في نفوس المقاتلة ويحضونهم على مجاهدة أعدائهم. وكان قادة الجيوش في الغالب ممن يجيدون الخطابة، ومن هذا القبيل خطبة طارق بن زياد يوم فتح الأندلس، وخطب ولاة خراسان في تحريضهم الجند على القتال إبان الفتوح فيما وراء النهر كخطب قتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب وأسد بن عبد الله القسري وغيرهم.
وثمة ضرب من هذه الخطب تختلط فيه المعاني السياسية بالمعاني الدينية هو القصص. فكان القصاص يرافقون الجيوش الغازية ويثيرون الحمية في النفوس عن طريق التمثل بالآيات القرآنية التي تحث على الجهاد وتذكير المجاهدين بما ينتظرهم عند الله من الثواب العظيم وربما استعانوا بأخبار فرسان العرب القدامى لتحقيق هذه الغاية.
والضرب الثاني من الخطابة هو الخطابة الدينية، وقد نالت هذه الخطابة حظاً وافراً من الازدهار والنماء في عصر بني أمية وإن لم تضارع الخطابة السياسية. ومرد ازدهارها إلى دواع شتى منها ظهور الفرق الدينية، وقد اكتسى حزبا الخوارج والشيعة مع الزمن ثوباً دينياً بعد أن كانا حزبين سياسيين. وهذه الفرق كانت تستعين بخطبائها في الدعوة إلى مبادئها والرد على خصومها، وكثيراً ما كانت المناظرات تقوم بين الفريقين المتنازعين.
ومما ساعد على نمو الخطابة الدينية كذلك حركة الزهد التي شهدها العصر الأموي، فقد ظهر في ذلك العصر جماعة من الزهاد وجهوا همهم إلى وعظ الناس وصدهم عن التهالك على ملاذّ الدنيا، وكان ظهور حركة الزهد رداً على انغماس عامة الناس في الشهوات، ولاسيما أولئك الذين أفاءت عليهم الفتوح أو التجارة المال الكثير. وكان في مقدمة الوعاظ الحسن البصري الذي نذر نفسه لهداية القوم وتزهيدهم في الدنيا الفانية بمواعظ بلغت الغاية في بلاغتها وقوة أثرها.
وإلى جانب القصاص الذين كانوا يرافقون الحملات الغازية لحث الجند على الاستبسال في القتال وجدت جماعة أخرى من القصاص تلازم المساجد وتقوم بسرد القصص الديني وتفسير القرآن الكريم تفسيراً ممزوجاً بقصص الأنبياء وأخبار الأمم القديمة، وكان بعضهم يجنح إلى المبالغة والتزيد كي يستميلوا الناس إلى قصصهم.
ويضاف إلى هذه الأنواع من الخطابة الدينية تلك الخطب التي كانت تلقى في المساجد أيام الجمع وفي الأعياد، وكان الوعظ غالباً على هذه الخطب إلا أنها لم تكن تخلو أحياناً من التعرض للجوانب السياسية.
وثمة خطب كان يلقيها الزهاد بين أيدي الخلفاء والولاة لتزهيدهم في الدنيا وقد أطلق عليها لفظ «المقامات».
ومن ألوان الخطابة الدينية أخيراً الخطب المتصلة بعقائد المتكلمين. وقد شهد العصر الأموي ظهور أوائل الفرق الكلامية المرجئة والقدرية والمعتزلة والجبرية، وكان لكل من هذه الفرق دعاتها الذين يروجون لعقائدها ويجادلون خصومها، وكثيراً ما كانت المناظرات تقوم بين هؤلاء، كل يدلي بحجته وأدلته، فارتقى بذلك فن المناظرة، وهو فن لم يعرفه العرب قبل، وفي حين كانت ضروب الخطابة الأخرى قوامها العناصر العاطفية كان قوام المناظرات العناصر العقلية المنطقية، وقد بلغ هذا الفن غايته في العصر العباسي.
والضرب الثالث من الخطابة هو الخطابة الحفلية. والمراد بالخطابة الحفلية الخطب التي كانت تلقى في المحافل والمجالس والأسواق لغرض من الأغراض المتصلة بالحياة الاجتماعية كالمفاخرة والتهنئة والتعزية والتكريم والشكوى وعقد النكاح وإصلاح ذات البين ونحو ذلك.
وقد حظيت هذه الخطب بقسط وفر من النماء والارتقاء في العصر الأموي لتوافر دواعيها، فكانت الوفود تقدم على الولاة والخلفاء ويقوم خطباؤها فيلقون الخطب بين يدي الوالي والخليفة في الغرض الذي قدموا من أجله. وربما اجتمع في مجلس واحد خطباء من قبائل شتى فيجري بينهم التفاخر بقبائلهم والإشادة بمآثرها. وقد شهد العصر الأموي استعار نار العصبية القبلية على نحو لم تعرفه العصور السابقة وأدى استعارها إلى نمو الشعر القبلي واتساع نطاقه من جانب وإلى كثرة المفاخرات القبلية من جانب آخر، ولاسيما بين خطباء العدنانية والقحطانية.
ومما يلفت النظر في ذلك انتقال مراكز النشاط الأدبي من البوادي إلى الحواضر والأمصار المحدثة التي ازدحمت بأفواج المهاجرين إليها من شتى قبائل العرب، فأدى ذلك إلى وقوع المفاخرات بين خطباء تلك القبائل في تلك الحواضر فضلاً عما قام بين شعرائها من مناقضات.
وقد ظلت الخطابة الحفلية التي كانت معروفة من قبل قائمة في العصر الأموي كخطب الإملاك وخطب إصلاح ذات البين وخطب التعزية وغيرها.
خصائص الخطابة في العصر الأموي: كان الخطباء الأمويون يعنون بتجويد خطبهم وتحبيرها وتنميقها حتى تأتي في الصورة التي يرتضونها ولم يكونوا يرسلون الكلام عفواً على البديهة - صنيع الجاهليين - وقد أثر عن البعيث الخطيب الشاعر قوله: «إنّي والله ما أرسل الكلام قضيباً خشبياً وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكك».
وكان من ثمرة هذا التنقيح أن جاءت خطب العصر الأموي منسقة الأفكار، مرتبة الأقسام، محكمة التسلسل. وتظهر هذه السمات على نحو جلي في خطبة زياد التي قالها يوم قدم البصرة.
وكان من خطباء العصر الأموي من تعمد محاكاة أهل البادية في جزالة أسلوبهم وبداوة ألفاظهم. ويظهر الطابع البدوي في خطب الحجاج خاصة. على أن أسلوب الخطابة الأموية كان يتفاوت بتفاوت أغراضها وموضوعاتها.
وقد ظلت خصائص الخطابة التي وجدت في خطب صدر الإسلام قائمة في الخطب الأموية، ومن ذلك استهلال الخطبة بذكر اسم الله وحمده وإلا كانت بتراء وتوشيحها بآي من القرآن الكريم وإلا كانت شوهاء، وقد يتمثل الخطيب بشيء من الشعر أو الرجز.
وربما وقع السجع في طائفة من الخطب الأموية ولكن الخطباء ما كانوا يسرفون في الإتيان به كراهية محاكاة سجع الكهان، وكان النبي e وخلفاؤه يوصون الخطباء بتحامي هذا السجع.
وحين ظهرت الفرق الكلامية برزت الحاجة إلى تعليم أتباع كل فرقة أصول الخطابة ووسائل الإقناع وتدريبهم على محاجة خصومهم بالبراهين والأدلة العقلية، وظهر صدى ذلك في خطبهم ومناظراتهم من حيث خصب الأفكار وتنسيقها وعمقها واستنادها إلى المنطق وأصول الجدل.
وفي الوسع القول إن فن الخطابة لم يبلغ في أي عصر من العصور ما بلغه في العصر الأموي من النماء والنضج.
أعلام الخطباء في العصر الأموي: ظهر في العصر الأموي عدد وفر من الخطباء في شتى ضروب الخطابة، ومن اللافت للنظر في ذلك العصر ظهور جماعات من الخطباء تنتمي كل منها إلى أسرة واحدة. ومن هؤلاء آل رقبة الذين ينتمون إلى قبيلة عبد القيس الربعية ومن الخطباء المشهورين في هذه الأسرة كرب بن رقبة وابنه مصقلة بن كرب، وهو أشهر خطباء هذه الأسرة، وكان أيام الحجاج. وقد ذكر الطبري أن الحجاج لما دخل الكوفة بعد هزيمة ابن الأشعث أجلس مصقلة بن كرب إلى جانبه وأمره أن يخطب فيشتم كل امرئ بما فيه. وكان ابنه كرب بن مصقلة خطيباً مفوهاً كذلك، وكان له خطبة يقال لها «العجوز» كان آل رقبة يفاخرون بها.
ومن الأسر التي اشتهرت بالخطابة كذلك آل الأهتم من قبيلة تميم، وهي أعرق الأسر العربية في الفن الخطابي، وعرف منها في العصر الجاهلي والإسلامي عمرو بن الأهتم [ر]، وأخوه عبد الله بن الأهتم. وكان لعبد الله ولدان اشتهرا بالخطابة في عصر بني أمية هما صفوان ابن عبد الله بن الأهتم، وعبد الله بن عبد الله ابن الأهتم. وقد ذكر أن عبد الله هذا دخل على عمر بن عبد العزيز فألقى بين يديه خطبة بليغة عرض فيها بأسلاف عمر من بني أمية.
وفي أواخر العصر الأموي ظهر من هذه الأسرة خطيبان أصابا شهرة بعيدة هما خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم، وشبيب بن شيبة ابن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وكان لهذين الخطيبين شأن كبير في العصر العباسي كذلك.
ومن الأسر القرشية التي كان لها حظ واف من الشهرة الخطابية عصرئذ آل العاص، وهم من بني أمية. ومن مشهوري خطباء هذه الأسرة سعيد بن العاص [ر]، وهو أشهر خطبائها. ومنها كذلك عمرو بن سعيد بن عمرو بن العاص المعروف بعمرو بن خولة - نسبة إلى أمه - وهو من الخطباء الذين فاخر بهم بنو أمية بني هاشم.
ومن الأسر التي اشتهرت بالخطابة الدينية في ذلك العصر أسرة فارسية الأصل تنتمي بالولاء إلى قبيلة رقاش البكرية، ومن هذه الأسرة يزيد بن أبان الرقاشي، وكان من القصاص المجيدين، وابن أخيه الفضل بن عيسى بن أبان القصاص. وكان عمرو بن عبيد يحضرمجلسه، ثم اشتهر بعدئذ ابنه عبد الصمد بن الفضل الرقاشي.
إلى جانب هذه الأسر الخطابية ظهر عدد جم من الخطباء المجيدين، وقد تقدم القول إن كل حزب من الأحزاب السياسية كان يستظهر بطائفة من الخطباء للمنافحة عنه. وقد برز من الحزب الأموي خطباء من الأسرة الأموية أشهرهم معاوية بن أبي سفيان، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان، وسليمان بن عبد الملك، وعتبة بن أبي سفيان، وعمرو بن سعيد الأشدق.
وأشهر خطباء الحزب الأموي زياد بن أبي سفيان [ر]، والحجاج بن يوسف [ر]، وكلاهما من قبيلة ثقيف التي كانت تستوطن الطائف. وقد تجلى نبوغ زياد الخطابي منذ أيام عمر بن الخطاب، ودعاه عمر بالخطيب المصقع. وقد مهدت له براعته البيانية والحسابية وثقافته الطريق لتولي الإمارة أيام علي ومعاوية، فولاه علي فارس وكرمان، وبعد مقتل علي استماله معاوية إلى صفه واستحلفه بنسبه وولاه البصرة، وهي يومئذ تموج بالفتن والاضطراب، فاستطاع بحنكته السياسية وحزمه القضاء على الفتنة وحمل أهل البصرة على طاعة بني أمية وأشاع الأمن والاستقرار فيها. وما لبث معاوية أن ضم إليه الكوفة بعد وفاة واليها المغيرة بن شعبة ، فكان أول من جمع له العراقان. ولما توفي سنة 53هـ كان الأمن والهدوء يعمان أرجاء العراق.
وقد سار الحجاج بن يوسف على خطا سلفه زياد ولكنه كان أكثر ميلاً إلى البطش وسفك الدماء. وكان يضارع في البراعة الخطابية، وشهد له معاصروه بذلك فقال مالك بن دينار: «ما رأيت أحداً أبين من الحجاج، وإن كان ليرقى المنبر فيذكر إحسانه إلى أهل العراق وصفحه عنهم وإساءتهم إليه حتى أقول في نفسي: لأحسبه صادقاً وإني لأظنهم ظالمين له».
ومن ولاة بني أمية الذين اشتهروا بالخطابة خالد بن عبد الله القسري [ر] وأخوه أسد، وروح بن زنباع، وعبد الله بن عامر، وبلال بن أبي بردة الأشعري، والمهلب بن أبي صفرة، وابنه يزيد، وقتيبة بن مسلم، ونصر بن سيار.
وظهر من الخوارج كثرة من الخطباء المجيدين منهم قطري بن الفجاءة [ر]، وعبيدة بن هلال اليشكري، والمستورد بن علفة، وزيد بن جندب الإيادي، وقد أشاد الجاحظ بفصاحته وبراعته الخطابية، وعمران بن حطان شاعر الصفرية وخطيبهم، وصالح بن مسرح وقد اشتهر بقصصه ووعظه لأصحابه، والضحاك بن قيس الشيباني. وأشهر خطباء الخوارج في ذلك العصر هو أبو حمزة الخارجي الإباضي [ر]، وقد انتهت إلينا طائفة من خطبه تنبئ بمهارته البيانية المتفوقة.
وبرز من رجال الحزب الشيعي عصرئذ الحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم، وقد ورثا عن أبيهما البلاغة والمقدرة الخطابية. ومن خطباء الشيعة كذلك زيد بن علي، رأس الزيدية، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وحفيده عبد الله بن معاوية بن عبد الله، ومنهم كذلك صعصعة بن صوحان، والمختار الثقفي، وسليمان بن صرد زعيم التوابين، وعبيد الله بن عبد الله المري.
ومن خطباء الحزب الزبيري المبرزين عبد الله بن الزبير، وأخوه مصعب، وعثمان بن عروة بن الزبير، وأخوه عبد الله بن عروة، وكان هذا أبرع الزبيرية وكانوا يشبهونه في بلاغته بخالد بن صفوان.
وأشهر الخطباء الدينيين عصرئذ هو الحسن البصري [ر]، ولم يحظ أحد من رجال الدين بمثل المنزلة التي حظي بها الحسن في ذلك العصر، وعلى أنه كان من أصل غير عربي فقد أجاد الخطابة إجادة العرب الخلص، وذلك لأنه نشأ نشأة عربية بين مواليه الأنصار، حتى كانوا يشبهونه برؤبة بن العجاج، وشهد له أبو عمرو ابن العلاء بالفصاحة فقال: «لم أر قرويين أفصح من الحسن والحجاج». وكان الحسن يعظ فيأسر القلوب ويسيل الدموع. وكانت حلقة «صاحب العمامة السوداء» أكثر حلقات المسجد ازدحاماً بالوافدين، وكانوا يشبهون كلامه بكلام الأنبياء، ولما توفي سنة 110هـ، كانت وفاته حدثاً عظيماً في تاريخ البصرة، وقد مشى أهلها جميعاً في جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلاة العصر في الجامع.
ومن فصحاء أهل الكلام وخطبائهم واصل ابن عطاء [ر]، شيخ المعتزلة، وقد بلغ من مقدرته الخطابية أنه خطب خطبة كاملة تجنب فيها حرف الراء لئلا تظهر لثغته. ومن خطباء الوعظ سحبان بن زفر الوائلي [ر] الذي ضرب المثل ببلاغته، وقد رووا أنه خطب عند معاوية ذات يوم من صلاة الظهر حتى صلاة العصر. ومنهم كذلك عمر بن عبد العزيز الذي كان يكثر من وعظ الرعية، ومنهم الأوزاعي ، وإياس بن معاوية [ر]، وجامع المحاربي، وصالح المري القاص.
ومن أشهر خطباء المحافل في ذلك العصر الأحنف بن قيس سيد بني تميم، والبعيث المجاشعي، والنخار بن أوس العذري، وصعصعة ابن صوحان.
الكتابة
عرف العرب الكتابة منذ العصر الجاهلي لتوافر الحاجة إليها، إذ كانوا يحتاجون إليها في كتابة العهود ومواثيق الأحلاف وصكوك التعامل والتبادل التجاري، وفي كتابة الرسائل، وغير ذلك. وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من موضع إلى القلم والكتابة نحو قوله تعالى: )ن، والقلم وما يسطرون( (سورة القلم، الآية 1). وكذلك نجد في الشعر الجاهلي ما يدل على معرفة الجاهليين بالكتابة.
إلا أن الكتابة لم تكن شائعة عصرئذ، إذ كان جل العرب على الأمية، وكانت الكتابة منتشرة في البيئات الحضرية أكثر من انتشارها في البيئات البدوية. وبقيام الدولة الإسلامية ازدادت الحاجة إلى الكتابة لتلبية متطلبات الدين الجديد، وانصرفت طائفة من كتاب الرسول e إلى كتابة الوحي، في حين عني آخرون بكتابة الرسائل. وقد ذكرنا أن الكتابة في تلك الحقبة كانت بسيطة موجزة بعيدة عن التعقيد والزخرف.
فلما جاء العصر الأموي تعقدت الحياة وتطور المجتمع الإسلامي واتسعت رقعة الدولة فوجدت الحاجة إلى إنشاء الدواوين. وكان إنشاؤها قد بدأ في عهد عمر بن الخطاب الذي أنشأ ديوان العطاء، فلما جاء الأمويون أوجدوا دواوين أخرى كديوان الرسائل وديوان الجيش وديوان الخاتم.
ورافق إنشاء الدواوين بدء حركة التدوين، فجمعت طائفة من الأخبار والسير والأشعار، وكتبت رسائل من موضوعات شتى.
وقد ظهر في عصر بني أمية كتاب احترفوا صنعة الكتابة، وكان لكل خليفة ولكل وال كتابه. وكان ديوان الخراج يكتب أول الأمر بلغة الدولة التي كانت قائمة قبل الفتح، فكان يكتب بالعراق بالفارسية، وبالشام بالرومية،وكان يتولاه الموالي من الفرس والروم وغيرهم، وفي عهد عبد الملك بن مروان عرب هذا الديوان.
أما ديوان الرسائل فكانت لغته العربية منذ إنشائه، وكان يقوم عليه كتاب من العرب أو من الموالي الذين أجادوا العربية. ومن الكتاب المبرزين في ذلك العصر عمرو بن نافع كاتب عبيد الله بن زياد، وجناح كاتب الوليد بن عبد الملك، وعبد الحميد الأصغر كاتب سليمان بن عبد الملك، والليث بن رقية كاتب عمر بن عبد العزيز، وسالم مولى هشام بن عبد الملك، وعبد الحميد الكاتب [ر] كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وهو أشهرهم.
كانت الكتابة تجري أول الأمر على السنن الذي كانت عليه في صدر الإسلام من حيث توخي البساطة والإيجاز ومجانبة التنميق والزخرف، ولكن تطور الحياة الاجتماعية والعقلية من جانب، وتولي الموالي - من الفرس خاصة - مقاليد الكتابة من جانب آخر، كل ذلك أدى إلى تطور فن الترسل وتعقد أدواته.
وقد تأثر الكتاب الموالي بمناهج الكتابة وأساليب التعبير في لغاتهم الأصلية، فظهرت في طرائقهم الكتابية سمات لم تعرفها الكتابة العربية من قبل، ومن ذلك إطالة الرسائل والتكرار والترادف والإسراف في التنميق والصنعة. وأول من عرف بإطالة الرسائل عمرو بن نافع كاتب عبيد الله بن زياد، ولم يكن ابن زياد راضياً عن طريقته الكتابية التي تغاير ما ألفه العرب.
ثم جاء سالم كاتب هشام بن عبد الملك فنهض بفن الكتابة الديوانية، ويقال إنه كان ملماً باللغة اليونانية وإن ما أوجده من سمات جديدة في الكتابة العربية مرده إلى تأثره بتلك اللغة، وهو قول يفتقر إلى ما يؤيده، ولم يصلنا من رسائل سالم إلا رسالة كتبها على لسان هشام إلى خالد القسري عامله على العراق.
وعلى يد سالم هذا تخرج عبد الحميد الكاتب، وهو يمت إليه بصلة القربى. كان عبد الحميد مولى العلاء بن وهب القرشي، وهو فارسي الأصل، وكان في أول أمره ينتقل في البلدان ويعلم الصبيان في الكتاتيب، ثم التحق بديوان الرسائل بدمشق في عهد هشام بن عبد الملك وتخرج على يد زوج أخته سالم في فن الترسل. وقد اتصل بمروان بن محمد منذ عهد هشام وكتب له، فلما صارت الخلافة إليه اتخذه كاتباً لرسائله، ولازمه عبد الحميد حتى آخر أيامه وأبى أن يتخلى عنه يوم أحيط به فقتل معه، وتذهب رواية أخرى إلى أنه توارى عند صديقه ابن المقفع ثم عثر عليه فقتل.
وعلى يد عبد الحميد تطور فن الترسل وبلغ غاية بعيدة من النضج،وجمهور الباحثين على أن الكتابة الفنية إنما وجدت على يده، ولهذا قيل: «فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد» وقد انتهت إلينا طائفة من رسائله القصيرة والمطولة وتوقيعاته.
وأبرز ما تتسم به كتابة عبد الحميد إطالة التحميدات في صدور الرسائل، والإكثار من الترادف، والعناية بالتصوير الفني وبالجانب الموسيقي، وذلك من طريق اختيار الألفاظ والتوازن بين الجمل، والإتيان بالسجع أحياناً. وهو يسرف في استعمال صيغة الحال. وكتابته بعيدة عن البساطة والعفوية اللتين عهدتا في الكتابة العربية من قبل وأثر الجهد والتكلف فيها واضح، وهو يسرف في تنميق رسائله وزخرفتها بألوان الصنعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق