تحليل وشرح قصيدة لا تصالحْ للشاعر أمل دنقل - الموسوعة العربية للمعرفة

مقالات تشمل كافة مجالات الحياة لنشر الوعي و المعرفة

اخر الأخبار

الجمعة، 6 أبريل 2018

تحليل وشرح قصيدة لا تصالحْ للشاعر أمل دنقل

تحليل وشرح قصيدة لا تصالحْ للشاعر أمل دنقل


أولا القصيدة



لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ ..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها -وهي ضاحكةٌ-
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف
واستطبت- الترف
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
أو أحوم وراء التخوم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه"!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
(9)
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد وامتطاء العبيد
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ


ثالثاً: التحليل: 

ثالثاً/1: وحدات القصيدة:

القصيدة كما نرى مكونة من عشر وحدات متوالية، بعدد وصايا كليب لأخيه الزير. وهي وصايا ذات نبرة حادة، جديرة بملك فارس مغدور، لأخ فارس يعرف معنى كلام الملوك. حيث تبدأ كل وحدة من الوحدات العشر بلا الناهية، يليها فعل أمر مضمر، أشد حضوراً في غيابه من حضوره:
ففي الوحدة الأولى، يأمره برفض الذهب ثمناً للشرف. وفي الوحدة الثانية، يأمره برفض قبول القَوَد، لأن فيه شبهة المساواة. وفي الوحدة الثالثة، يأمره بتذكر آلام ابنة أخيه اليمامة، في مواجهة دعاوى الإنسانية الكاذبة. وفي الوحدة الرابعة، يأمره برفض التاج ثمناً لجثة أخيه. وفي الوحدة الخامسة، يأمره بشجب دعوات الاستسلام من داخل الصف. وفي الوحدة السادسة، يأمره برفض قبول الحق مقسطاً وعلى أجيال. وفي الوحدة السابعة، يحذره من التلهي عن الثأر بالخرافات. وفي الوحدة الثامنة، يأمره بالدينونة باستحالة المصالحة. وفي الوحدة التاسعة، يأمره بمواصلة القتال ولو كان وحيداً. أما الوحدة العاشرة، فتعيد تكرار النهي عن المصالحة مرتين، كأنها تختصر كل ما فات، وتعيد صياغته في كلمات مأثورة، أوقع في النفس.

ثالثاً/2: الصورة:

يرسم كليبُ القصيدةِ العديد من الصور الموحية المؤثرة، التي تنوب عنه في إيصال الرسالة. إنه يكتب وصيته ويموت. ولكن من يضمن أن تنفذ هذه الوصية؟. لا يضمن ذلك إلا تحويل مشاعر الموصى له إلى نار مضطرمة، لا يهدأ أوارها على تقادم الزمن. لذا تنوب الصورة عن المصور، في البقاء أطول مدة ممكنة. وهذه بعضها:
1ـ ففي الوحدة الأولى، نرى صورة الأخوين الطفلين، وقد وقفا بين يدي أمهما ينالان التقريع المشترك، ويبتسمان في تآمر لطيف. ثم نرى عيني أحدهما وقد ثقبتا من بعد، وثبتت مكانهما جوهرتان باردتان... ثم بعد سيل الصور هذا، نرى الأخ الحي يلبس ثياب الحرير ويرفل فوق دم أخيه.
2ـ أما في الوحدة الثانية، فنرى صورة الفارس الأسطوري، وقد رفع ساعده في فضاء الصحراء، وغرس السيف في جبهتها، منتظراً سماع صوت العدم، الذي كان هو مصير أخيه المغدور. 
3ـ وفي الوحدة الثالثة، نرى الجد يلاعب أحفاده، فيشدون عمامته ويلهون بلحيته، وهو ساكن مستسلم سعيد. ونرى اليمامة ـ رمز الحب والسلام ـ تطير فزعة وقد احترق عشها.
4ـ وفي الوحدة الرابعة، نرى الأيدي الملطخة بالدم وقد صافحها عدوها مغضياً عينيه عن الدم الذي يبرق بين الأصابع التي تصافحه.
5ـ وفي الوحدة الخامسة، تواجهنا صورة الرجل الذي لا يستطيع النظر في عيني زوجته، لأنها فقدت ثقتها في قدرته على حمايتها. 
6ـ وفي الوحدة السادسة، نرى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمسِ) فوق جبهة الأمير المستسلم.
7ـ وفي الوحدة السابعة، نرى جساساً الغادر مختبئاً بين الغصونِ، قبل أن يطعن ابن عمه، وكليب يتحامل على ساعديه متلفتاً، ليرى نظرة التشفي في عيني الغادر. 
8ـ وفي الوحدة الثامنة، نرى مشهداً كونياً يحاول فيه الوجود أن يعود القهقرى دون جدوى.
9ـ وفي الوحدة التاسعة، نرى صورة ممسوخة لأمراء الهوان العربي، وهم يمتطون العبيد ويلتهمون اللحم.

ثالثاً/3: الموسيقى:

القصيدة هي قصيدة تفعيلة كما هو واضح. وقوامها هو تفعيلة بحر المتدارك: فاعلن (ـ ب ـ) المتكررة طوال مقاطع القصيدة، والتي لا تتوانى عن وصل الأسطر بعضها ببعض، على عادة القصيدة الحديثة، في عدم اعترافها بالقاعدة القديمة القاضية باستقلال البيت الشعري.
لكنها ـ على غير ما هو حال قصيدة النثر ـ تحافظ على نوع من القافية، مهمتها منح القصيدة إيقاعاً قوياً يناسب مضمون القصيدة. فكأن طبول الحرب تقرعها القوافي الصارخة، مشاركة كليبَ القصيدة في تقريع كل من تسول له نفسه القبول بالصلح، الذي هو قرين الاستسلام. 
ففي السطر الثاني من الوحدة الأولى تواجهنا كلمة (الذهب) وبعد عدة أسطر تطلع علينا الكلمات (رب، أب، القصب، العرب، الهرب). وفي الوحدة الثانية تواجهنا القوافي التالية (بدم، الحكم، العدم). وغني عن القول أن قوة الإيقاع، الناتج عن تكرار حرف الميم الصامت، تشي بالكثير من التصميم، المعهود من حركة زم الشفتين المعروفة عند أشد لحظات العناد. وهكذا هو الحال في الكلمات من نفس الوحدة: (لك، أثكلك، هلك، لك، ملك)، كما هو في باقي الوحدات؛ وإن بطريقة مغايرة بعض الشيء. 

رابعاً: بنية النص:

رابعاً/1: البنية الخارجية: الهيكل العام:

تتكون بنية القصيدة الخارجية من ثنائية فاعلة، تتكرر على طول القصيدة: المصالحة والحرب. المصالحة هنا لا تُذكر بصيغة الإثبات، والحرب لا تذكر مباشرة. وكلاهما ـ المصالحة والحرب ـ لا يردان في القصيدة مجردين عن فواعلهما النفسية. إن المتكلم يبدأ في كل مقطع ـ وأحياناً في وسط المقطع ـ بالنهي الآمر عن المصالحة.
ولأن قناع الملك القتيل هو الذي يتكلم في القصيدة، ولأنه مدرك أنه الآن يموت ويتجرد من سلطته، فإنه يستعين بسلطة أشد نفاذاً، خصوصاً في هذا الموقف: سلطة الأخوة وذكريات الصبا والمشاعر المشتركة. هكذا فعل كليب في السيرة، وهكذا يفعل قناعه في القصيدة: 
"لا تصالحْ، ولو منحوك الذهبْ: أترى حين أفقأ عينيكَ، ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانَهما، هل ترى؟". "لا تصالحْ على الدمِ، حتى بدمْ!. لا تصالح! ولو قيل رأسٌ برأسٍ: أكلُّّ الرؤوس سواءٌّ؟". "لا تصالحْ، ولو حَرَمَتْكَ الرقادْ، صرخاتُ الندامةْ: وتذكَّرْ... أنّ بنتَ أخيك "اليمامة" زهرةٌ تتسربل ـ في سنوات الصبا ـ بثياب الحداد".
هكذا تُذكر المصالحة بصيغة النهي. أما الحرب فلا تُذكر مباشرة إلا مرة واحدة في الوحدة الأولى: (إنها الحربُ!. قد تثقل القلبَ.. لكنّ خلفك عارَ العربْ.. لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرَبْ!). في حين تلح القصيدة، طوال أسطرها، على فواعل الحرب النفسية ولوازمها؛ كالسيف والدم: (اغرسِ السيفَ في جبهةِ الصحراءِ، إلى أن يجيبَ العَدمْ ـ فالدم الآن صار وساماً وشارةْ ـ ارْوِ قلبك بالدمْ، واروِ التراب المقدَّسْ. واروِ أسلافَكَ الراقدين).
التكرار إرادة تأكيدٍ توقف سيرورة الزمن. فحين نلجأ في الواقع إلى تكرار عبارة ما، فإنما نحن في الحقيقة نعيد إنتاج اللحظة السابقة. وإذا كانت وصية كل من كليب وأمل دنقل مشبعة بالتكرار، كما نرى؛ فإن لنا أن نقرر شكل حالة القصيدة هنا بأنه (لحظة توقف في حركة الزمن)، تهدف إلى إيقاف سيرورة الحياة، عند المشهد الأبدي حيث كليب منكب على وجهه وسط رمل الصحراء والرمح منغرس في ظهره، فيما جساس ينظر إليه بتشف وقحة بالغين.
أرأيتك هذا القبح الأبدي!. إنه هو الذي ينطق الوصية لتقول؛ بأنه لا ينبغي للعالم أن يتحرك، قبل أن يعيد ترتيب العلاقات، وفق ما كانت عليه في السابق، قبل أن يطعن القبح الكلي (جساس) مثال الجمال الكلي (كليب). 
هذه هي لحظة الزمن المستمر (continuous) التي تتوقف فيها سيولة الحركة، وتسمو فيها اللحظة "إلى مرتبة العام، أو الجوهر، أو الإله". ها نحن الآن أمام نوع من (الأبدية) أو (القيمة المطلقة) التي تستمد قيمتها من ذاتها. وإن لحظة الزمن المستمر هذه لمعروفة ومألوفة(2). يمكن القول بأنها تقنية قديمة متجددة: فلطالما اجترحتها الآثار الأدبية والفنية القديمة، ولسوف يستمر الفن في الولع بها في المستقبل. 
ها نحن نرى كيف تعزز الوصية الماضية، مقولاً يخاطب الحاضر، حين تدفع زمنين متوازيين إلى نتيجة واحدة: الحرب المستمرة حفاظاً على الشرف، وهروباً من العار. وإذا كان عار الزير، في قبوله المتوقع للمصالحة، يمثل مقدمة للقضية محل الجدل ـ كما يقول المناطقة ـ فإن قبول القيادة المصرية الحالية توقيع اتفاقيات سياسية للمصالحة مع إسرائيل، يمثل النتيجة المقبوحة أخلاقياً، والمرفوضة شعرياً. 

رابعاً/2: مخيال القصيدة: البنية الداخلية:

قصة الزير سالم هي ملحمة البطولة والثأر: بطولة البطل الكامل، الذي لا يتبدى كماله تاماً إلا بمقابلته بنقيضه المتآمر الشرير. والثأر الذي يطلب العدل التام والحق غير المنتقص. هكذا كان الأمر منذ بدء الخليقة، وهكذا تريد لنا قصة الزير سالم أن تقول. 
وقد امتدت فكرة البطولة ونقيضها، وفكرة الثأر واحتمالات التفريط فيه، على طول حكاية الزير سالم. فبعد أن سيطر التبّع حسان اليماني على منطقة الجزيرة، التي تسكنها القبائل العدنانية، نجد الراوي يقدم لما سيحدث بما يمكن تسميته بـ(تاريخ السلالة) حين يجعل والد البطل بطلاً، ووالد الشرير خنوعاً ماكراً لئيماً. فـ(ربيعة) أبو كل من كليب والزير يموت شنقاً على يد الملك الغازي ـ في رفض ذي دلالات لا تخفى ـ بينما أخوه مرّة والد الشرير جساس يعلن الخضوع للسلطة الغازية، ويقبل بشروط الاستسلام، ويقول: "الأمان يا ملك الزمان. نحن الآن عبيدك وطوع يديك، وجميع أمورنا راجعة إليك"(3). 
ولأن الاستملاك هدف أساسي من أهداف السيطرة، فإن التبع حسان لا بد له من أن يعجب بجمال الجليلة بنت مرة، فيقرر الزواج منها، رغم علمه بأنه مخطوبة لابن عمها كليب ابن الأمير المشنوق، وشقيق الزير سالم. ومن هنا تبدأ الأحداث بالتصاعد، وصولاً إلى تدبير كليب قتل التبع حسان، وسط بيته وليلة عرسه، واستعادة خطيبته وملك آبائه المغتصب. 
علمت سعاد (البسوس) بمقتل أخيها التبع، فسعت في إيقاع الفتنة بين بني مرة وأبناء ربيعة، تمهيداً لنوال ثأرها. فهجرت بلادها، وقدمت إلى جساس بن مرة، وقدمت له نفسها كشاعرة جوالة تمدح العظماء. فأعجب بفصاحتها، وقرّبها إليه، وصارت في حمايته. ثم استغلت كل ذلك، فجعلت ناقتها الجرباء ترعى في حديقة الملك كليب، إلى أن أجبرته على عقرها. فاستثارت البسوس جيرة جساس، وفرضت عليه الثأر لها، الأمر الذي دفعه إلى الغدر بابن عمه كليب وقتله، بعد أن أوهمه أنه قادم للهو معه في حديقته. وهكذا قامت حرب البسوس بين أبناء العمومة، واستمرت جذعة أربعين عاماً متواصلة.
هذا هو قوام السيرة الشعبية، التي ظلت الأجيال تتداولها منذ قرون. ورغم الاختلافات المتعددة بين أحداثها وأحداث الواقعة التاريخية ـ في بعض المفاصل ـ إلا أن ما يهمنا هنا، ويدور البحث حوله، هو السيرة الشعبية؛ باعتبارها المؤثر (hypotext) الذي تتناص معه هذه القصيدة. إذن فنحن في مواجهة سيرة شعبية، تتحول شكلاً ومحتوى، بما يتوافق والتحولات التاريخية في المنطقة، والضمير العربي المعاصر. أي أننا نقف الآن مقابل معادل موضوعي.

رابعاً/3: المعادل الموضوعي:

يقول ت. سٍ. إليوت: "إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن المشاعر فينا هي إيجاد موقف، أو سلسلة من الأحداث والشخصيات، التي تعتبر المقابل المادي لتلك العاطفة"(4). 
إن للشاعر مخيلةً خاصة به، نابعة من وعيه الفردي. وإن لأمته مخيلة جمعية، مرتبطة بالهزيمة الممضة التي عانتها، والأرض السليبة التي ضاعت منها. والشاعر هنا ـ باستحضاره لصورة كليب وائل الماضية ـ مدرك سلفاً أنه ينشئ في ذهن المتلقي العربي واحدة من علاقات التداعي بينها وبين صورة حاضره المثلوم. ومن هنا فإنه متوقع منا ألا نصدق بأنه يتحدث لنا عن ملك مغدور في الزمن البائد، يكتب وصاياه على بلاطة بدمه. 
إننا أمام عالمين متوازيين إذن: الملك المغدور كليب وائل في زمن الجاهلية، مقابل الشرف العربي المطعون في الزمن الحاضر. سنسمي عالم الملك المغدور (عالم الصورة)، لأنه هو الحكاية، ومنه يستمد الشاعر قناعه. وسنطلق على عالم الشاعر الحاضر (عالم الأصل)، لأنه هو الذي يحيل إليه مضمر خطاب القصيدة. فهو المقصود من كل هذا النشيد المشتعل بالغضب. 
إذن فنحن في هذه القصيدة نواجه شاعراً يرتدي قناعاً. أي أننا في لحظة من لحظات المونولوج، حيث يقف البطل على خشبة المسرح، وقد استبانت له الحقائق الكلية فجأة، وصار الآن ينطق بالحكمة. 
يتلبس القناعُ الممثلَ ويُنطقه. ثمة بطل مغدور مطعون ينزف ويكتب وصاياه، فيما الحربة منقوعة في ظهره. وهذا البطل القادم من التاريخ يتلبس الشاعر القادم من الحاضر. والقناع هنا ليس مجرد قطعة قماش (mask) يتخفى وراءها الممثل؛ بل هو الشخصية التاريخية ذاتها (persona)، وإن على مسرح القصيدة(5). 
نحن الآن أمام سقوط مأساوي للبطل. وإن مأساوية هذا السقوط هي التي تحفزنا إلى التوحد مع كفاحه، وتطلق فينا أعظم الطاقات الإنسانية، وأرفع البطولات، كما يقول لوكاش(6). نقول هذا إقراراً لواقع دنيوي، حادث بالفعل في وعي الشاعر، وهو يسرد قصة المشابهة بين حالتي الحاضر: حيث الشرف العربي السليب، وحالة الماضي: حيث انتصار الغدر في هذا المشهد الحزين. 
يقول أمل دنقل في تعليقه على المجموعة، التي جاءت هذه القصيدة واسطة عقدها: 
"حاولت أن أقدم، في هذه المجموعة، حربَ البسوس ـ التي استمرت أربعين سنة ـ عن طريق رؤيا معاصرة. وقد حاولت أن أجعل من كليب رمزاً للمجد العربي القتيل، أو للأرض العربية السليبة، التي تريد أن تعود للحياة مرة أخرى، ولا نرى سبيلاً لعودتها ـ أو بالأحرى لإعادتها ـ إلا بالدم.. وبالدم وحده"(7).
وفي المقطع الثامن نرى كيف يؤكد الشاعر ذلك، إذ يقول: 
"لا تصالحْ،/ إلى أن يعودَ الوجودُ لدورته الدائرةْ:/ النجوم.. لميقاتها/ والطيور.. لأصواتها/ والرمال.. لذراتها/ والقتيل لطفلته الناظرةْ". 
في عالم الصورة يخاطب كليب وائل أخاه من خلال الكتابة. فالقتيل يمثل البطل التراجيدي في نهاية المسرحية.
ولكننا ـ في عالم الأصل ـ نرى الشرف العربي الفقيد، هو الذي يخاطب عالماً غائباً ينوب عنه جمهور المشاهدين. والفرق بين بطل القصيدة الحاضرة والبطل التراجيدي يكمن في اختلاف النهاية فحسب. 
البنية الداخلية للقصيدة هي بنية مثالية، يمثل الثأر (الذي هو الخير) قيمتها العظمى. لذا فقد توجب عليها أن تمهد لانتصار الخير، في عالم الضمير، بعد إذ تعذر تحققه في عالم الواقع. ولئن بدا واضحاً، لدى الشاعر، إلى أي جانب يقف الجمهور، فقد توجب عليه أن يعلن قيمة المثال: 
"أترى حين أفقأ عينيكَ،/ ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانَهما هل ترى..؟/ هي أشياء لا تُشترى:/ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،/ حسُّكما، فجأةً، بالرجولةِ،/ هذا الحياء الذي يكبت الشوقَ.. حين تعانقُهُ،/ الصمتُ، مبتسمين، لتأنيبِ أمِّكما وكأنكما/ ما تزالان طفلين!/ تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:/ أنَّ سيفانِ سيفَكَ صوتانِ صوتَكَ". 
ها نحن نرى هنا نوعاً من الانزياح، بين صوت الملك الممسرح وصوت الشاعر العربي المضمر. وهو انزياح تصر القصيدة على تأكيده، رفضاً لما يتوقعه الشاعر العروبي الناصري من امتطاء السادات ـ المعادل الموضوعي للزير سالم ـ قطار الهزيمة. نرصد هذا الانزياح في قوله: (لا تصالحْ،/ فليس سوى أن تريدْ أنت فارسُ هذا الزمان الوحيدْ، وسواك.. المسوخْ!).
فالشاعر يعلم أن بطل السيرة لم يهادن، بل ظل يقاتل حتى تحقق له النصر الكامل. 
وإن لهذا الانزياح لوظيفة أيديولوجية ـ كما هو شأن كل القصائد السياسية ـ تقول بأن على من يحكم الشقيقة الكبرى و(أم الدنيا) أن لا يقبل بأقل من عودة حياة الشرف، تامة كاملة غير منقوصة. وأن ذلك إن لم يعد متوقعاً في عالم الأصل، فإنه قد حدث بالتأكيد في عالم الصورة. وحتى العدد عشرة ـ الذي تتألف منه وحدات القصيدة ـ ستلهمه الشاعر من عدد وصايا كليب لأخيه. حيث تورد السيرة الشعبية هذه الوصايا بالكلمات الآتية:
"واسمع ما أقلك يا مهلهل وصايا عشر افهم المقصودِ
فأول شرط: اخوي لا تصالح ولو أعطوك زينات النهودِ
وثاني شرط: اخوي لا تصالح ولو أعطوك مالا مع عقودِ
وثالث شرط: اخوي لا تصالح ولو أعطوك نوقا مع كاعودِ
ورابع شرط: اخوي لا تصالح واحفظ زمامي مع عهودِ
وخامس شرط: اخوي لا تصالح وقد زادت نيراني وقودِ
وسادس شرط: اخوي لا تصالح فإن صالحت لست أخي أكيدِ
وسابع شرط: اخوي لا تصالح واسفك دمهم في وسط بيِدِ
وثامن شرط: اخوي لا تصالح واحصد جمعهم مثل الحصيدِ
وتاسع شرط: اخوي لا تصالح فإني اليوم في ألمٍ شديدِ
وعاشر شرط: اخوي لا تصالح وإلا قد شكوتك للمجيدِ
فالمتوالية اللفظية (لا تصالح)، في كل من القصيدة والسيرة الشعبية، تبرز الإلحاح على مضمونها، في مشترك معنوي، يخشى كل من الشاعر والملك المغدور من حدوثه؛ بناء على ما سبق لهما رؤيته، في كل من الصورة الزير سالم والأصل أنور السادات(8). 
ولئن كان قميناً بمن أردته رماح الغدر أن يمتلئ بكل مشاعر الانتقام؛ فلقد لا يمكن لنا الاكتفاء بهذا التبسيط المخل. فكليب موته موت رجل، أما موت الأرض ـ بالاغتصاب ـ فموت شرف الأمة. إنه يشبه حالة اغتصاب كبرى يمارسها اليهود بحق نساء الجماعة. هكذا الأمر هو في الضمير العام، وهكذا الأمر ـ بل أشد ـ في ضمير الشاعر الصعيدي بصورة خاصة. ولذا نراه يشرع في جعل الثأر قيمة عظمى لأمته، لا من منطلق النزعة فحسب، بل كذلك من منطلق الحاجة إلى استعادة التوازن النفسي. إنه يؤكد أن قيمة المشاعر الإنسانية تنبع من ذاتها، لا من شيء خارج عنها. فالمشاعر ـ كالمبادئ ـ غير قابلة للبيع: (أترى حين أفقأ عينيكَ/ ثم أثبِّتُ جوهرتين مكانَهما هل ترى..؟/ هي أشياء لا تُشترى). وهل يمكن لأحد أن يبيع بصره. أم هل يمكن لأحد أن يشتري العواطف!: (إنني كنت لكْ/ فارساً،/ وأخاً،/ وأباً،/ ومَلِكْ!).

رابعاً/4: الولع الحسي: 

القصيدة مولعة بالتركيز على الأبعاد الحسية، للعالم الذي تريد أن تقدمه للمتلقي: وإذا كان المجرد وعياً نفسياً غير محدد بالحدود المادية الفيزيائية، فإن مهمة الصورة هنا استحضار هذا الوعي النفسي إلى عالم الشهادة.
فلننظر في الأمثلة الآتية:

1ـ غرسِ السيفَ في جبهةِ الصحراءِ إلى أن يجيبَ العَدمْ.
2ـ كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟/ كيف تصير المليكَ على أوجُهِ البهجةِ المستعارةْ؟.
3ـ كيف تنظر في يد من صافحوكَ فلا تبصر الدمَ في كل كفْ؟.
4ـ عندما يملأ الحقُ قلبَكَ:/ تندلع النارُ إن تتنفَّسْ.
5ـ ارْوِ قلبك بالدمْ واروِ التراب المقدَّسْ.. 
6ـ اروِ أسلافَكَ الراقدينَ إلى أن تردَّ عليك العِظامْ!.
7ـ ثم تبقى ِيد العار مرسومة (بأصابعها الخمسِ)/ فوق الجباهِ الذليلة!.
8ـ سرقَ الأرضَ من بين عينيَّ/ والصمتُ يطلقُ ضحكته الساخرةْ!.
ثم لنتساءل: ما الدلالات النفسية والشعورية التي تحيل إليها هذه الصور الحسية؟. لماذا يطلب الشاعر من البطل أن يغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم؟.
الصحراء عدم. والسيف صانع العدم. والمخاطب بهذا هو البطل الذي رأى كيف حول الغدر أخاه إلى عدم. إن مهمة الصورة هنا تجسيد العدم وإعطاؤه الفرصة للكلام. إذن فالشاعر، الذي تتقمصه روح كليب، يطلب من أخيه ألا يصالح، إلى أن يرضى صاحب الحق. وهيهات له أن يرضى بغير الحق الكامل. 
إن لنا أن نتصور مدى الغضب المسيطر على الشاعر، وهو يرى إرهاصات المصالحة في أروقة السياسة. سنعود إلى تذكر أن كليباً هو المعادل للحقوق العربية المسلوبة، وأن الزير هو المعادل للبطل الذي عليه أن يحذر من دعوات المصالحة. لكأننا أمام هرقل عربي يغرس قدميه في الأرض، ويرفع سيفه في وجه الكون!.
هكذا يريد الشاعر من البطل العربي أن يكون. وهو يستلهم في ذلك قصة الزير التي تقول:
"فلما طال المطالْ، واشتدت على (بكر) الأهوالْ، اجتمعت أكابر الناسْ، مع الأمير جساسْ، وأخذوا يتفاوضون كيف يتخلصون من هذه الحرب الملعونة... فقال سلطان لأخيه جساس: اعلم يا أخي بأن الزير في كل صباح، يمر على قبر أخيه كليب فيحييه بالسلام، ويقول له: قد قتلت في ثأرك فلان وفلان، فهل اكتفيت أم لا؟. فلا يجيبه أحد. فالرأي عندي أن تنتخبوا رجلاً وتضعوه داخل القبر، بحيث لا يراه أحد. فإذا مر الزير على القبر، حسب عادته، وسأل أخاه ذلك السؤال، أجابه الرجل بصوت خفيفْ، من قلب ضعيفْ: لقد اكتفيت يا أخي، فاغمد سيفك من هذا اليومْ، عن قتال القومْ، وإياك وأذية البشرْ، فإن ذلك مما يجلب عليَّ الضررْ..."(9).
في المثالين الثاني والثالث، يحول الشاعر المصالحة ـ وهي شيء معنوي مجرد ـ إلى واقع، حسي تمثله خطوات الأخ على جثة أخيه، فيما يتعمد ألا يرى دم أخيه النازف. ولنا أن نتصور حجم الخزي، الذي تجلل به القصيدة وجه الأخ المصافح، المتناسي حق أخيه المغدور. وهكذا في باقي الأمثلة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق