شهد العصر العباسي ازدهارا في شتى مجالات العلوم ومنها الشعر بكل أغراضه لكن خفت صوت المدرسة العذرية في الغزل وكثر الغزل الفاحش ولعل الخطر في هذا ظهور نوع من الغزل يعد أكثر الأنواع انحطاطا وهو الغزل الغلماني، ولكن بالرغم من ذلك ظل الشعراء يتركون هذا النوع في قصائدهم الرسمية وهناك أيضا شعراء يحافظون على قدر كبير من الغزل العفيف ومن سمات الغزل في هذا العصر الأخرى تليين اللغة والابتعاد عن ايراد الغريب من الالفاظ ومن أهم شعراء الغزل في هذا العصر أبو نواس وبشار بن برد وأبو فراس الحمداني وأبو تمام وعباس بن الأحنف والكثيرين غيرهم. وكمثال على الغزل العفيف قول أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوىما الحب الا للحبيب الأولكم منزل في الأرض يألفه الفتىوحنينه ابدا لأول منزلالغزل الصريح في العصر العباسيأغراض أخرى
وقد اكتسب الغزل في العصر العباسي غنى ومضاء لارتباطه بعاطفة الحب الغلابة في النفس الإنسانية. وأقبل الشعراء إقبالاً كبيراً علىالنظم فيه، فكثر كثرة بالغة وازدهر ازدهاراً واسعاً. غير أن الاتجاهين اللذين غلبا في العصر الأموي وهما الغزل العفيف والغزل الصريح لم يسيرا في العصر العباسي على ذلك النحو المتوازن. فقد أخذ الغزل العفيف في التضاؤل، في عصر تكاثرت فيه النحل والآراء، واحتدمت المنازع والأهواء، وقلما عرف المجتمع العباسي طائفة من شعراء الحب النقي الطاهر كالذين عرفتهم من قبل بوادي الجزيرة وربوع الحجاز، مثل قيس بن ذريح وجميل بن معمر وعروة بن أذينة. ولعل العباس بن الأحنف وقلة من أمثاله الشعراء الذين تعذبوا في عشقهم يمثلون بقية ذلك المنحى، وإن لم يبلغوا فيه شأو العذريين قبلهم. فالعباس بن الأحنف (ت192هـ/808م) قصر شعره، أو كاد، على التغني بعاطفته ومشاعره.
ولعلي بن الجهم غزل كثير أجاد فيه تصوير لواعج حبه. وقد برع في مقدماته الغزلية الرقيقة ولاسيما ما كان يستهل به مدائحه للخلفاء. ومن ذائع غزله في صدد مديحه للمتوكل:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
واشتهر البحتري بالغزل، لما اتسمت به ألفاظه من سهولة ورقة وعباراته من عذوبة وسلاسة، وقد أحب علوة الحلبية، وقال فيها جل غزله.
وغزل الشريف الرضي (ت406هـ/1016م) على تأخر عهده من أبرز الشواهد على نبل الشعور وعفة اللسان، فضلاً عن سمو مكانة ورفعة نسب، وقصائده الجميلة التي اشتهرت بالحجازيات نفثات شجية أثارت كوامن نفسه المضطربة.ولعل أبرز انعطاف طرأ على الشعر العربي في العصر العباسي هو انبثاق غرضين آخرين أضيفا إلى سائر الأغراض المعهودة في الشعر العربي، وهما غرض المجون والزندقة، وغرض الزهد والتصوّف.ومع أن لهذين الغرضين جذوراً في الشعر العربي القديم، إلا أنهما بلغا في هذا العصر المدى من التطرف. لقد انطوى المجتمع الإسلامي في العصر العباسي على كثير من التعقيد، وعرض له كثير من الاختلال. وكان ذلك كله بسبب التبدل الشديد الذي أصاب الحياة الاجتماعية والفكرية والدينية. إذ التفت الناس إلى حياة الدعة واللهو نتيجة انقضاء مرحلة الجهاد والفتح، فازدهرت التجارة وحركة القوافل، وتكاثر المتمولون وتركزت الثروة في جيوب فئة من الأغنياء. ونشطت تبعاً لذلك حركة المتاجرة بالرقيق، وانتشرت أسواق النخاسة، وشاع اقتناء الجواري والغلمان، بعد أن انصبت عناصر أعجمية كثيرة على الحياة العربية من فرس وروم وترك، حاملة معها نزعاتها ونزواتها، وعاداتها وأهواءها، فكثرت عناصر الموالي، وتزعزعت القيم،وضعفت الأعراف والتقاليد. وهكذا برزت الزندقة لتغدو مظهراً من مظاهر المروق من الدين وفساد العقيدة، كما برز المجون مظهراً آخر من مظاهر التحلل في الأخلاق والسلوك، والاستهتار بالقيم والأعراف. وقد تطرّف الشعراء في ذلك،من أمثال بشار وأبي نواس ومطيع بن إياس، حين أطلقوا لأنفسهم عنان القول، وخرجوا عن نطاق الحشمة والوقار. ولم يفتقد الأدب ذلك الحب العذري أو العفيف، وما اتسمت به من ملامح الطهر والنقاء، بل ابتلي بنمط شاذ مستحدث من الشعر الهابط في مضمونه لم يعهده العرب من قبل، وهو التغزل بالمذكر. كما لم يعد الكثيرون يجدون حرجاً في شرب الخمرة وارتكاب المعاصي متحللين من كل خلق ودين.
وثمة نزوات كثيرة اشتهر بها أبو نواس وتجلت في أقواله وأفعاله، إنه يخاطب ساقية في الحانة بكلمات طافحة بالاستهتار والتحدي:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ولا تســقني سراً إذا أمــكن الجهر
حتى إن بعضهم جهر بالزندقة ومنهم بشار ابن برد وحماد عجرد والحسين بن الضحاك وصالح بن عبد القدوس وسواهم، وقد عرف أكثرهم بالمجون والتهتك. والملاحظ أن هذه النزعات المتطرفة قد برزت في مدن العراق كالبصرة والكوفة وبغداد نتيجة انصباب فئات كبيرة من الأعاجم على سكان تلك الحواضر، حاملة معها نحلها الغريبة، من بوذية وزرادشتية ومانوية وغير ذلك.
وطبيعي داخل ذلك المجتمع الحافل الذي كان يضطرب بتيارات شتى أن تتعدد النزعات، وتتعارض الاتجاهات. ولم يكن بوسع مجتمع عميق الجذور ورث القيم العربية وتشبع بالروح الإسلامية أن يتقبل الزيغ والانحراف، ويرتضي الطيش والمروق. لقد هال الأتقياء وذوي الغيرة على الدين والأخلاق ما تعرض له ذلك الجيل من غزو لأفكاره ومعتقداته، وفساد في قيمه وسجاياه. ورأوا أن خير سبيل إلى النجاة من تلك الشرور العودة إلى جوهر الدين والتمسك بحبل الله. وهكذا اشتد تيار الزهد والتقشف في مقابل نزوع الآخرين إلى المجون والتحلل. وقد غلا بعض هؤلاء في التضييق على أنفسهم غلو أولئك في تحللهم واستهتارهم. فدأبوا على الوعظ والتعبد، وحضوا على حياة النسك ونبذ حطام الدنيا.
ويعد الشاعر أبو العتاهية الذي عاش في صدر العصر العباسي ممثل تيار الزهد في الشعر العربي، حين أكثر من نظم قصائده الزهديات وبرع فيها، حتى إنه جعل من ذلك الشعر غرضاً جديداً انضم إلى سائر الأغراض المعهودة.
وقد نظم في غرض الزهد شعراء كثيرون، منهم سفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك ومحمود الوراق ومالك بن دينار، إضافة إلى أبي نواس في أواخر حياته.
ثم أخذ تيار الزهد يخرج عن بساطته ويزداد اتساعاً وتعقيداً، فلم يعد أعلامه يكتفون بالوعظ والتذكير بالموت، والإكثار من ذكر القيامة والنار، بل راحوا يرتكزون إلى أصول فكرية وفلسفية، انبثق منها في نهاية الأمر مذهب التصوف. وقد تجلى مفهوم الحب الإلهي في عصر مبكر لدى رابعة العدوية (ت135هـ أو 185هـ) الزاهدة العابدة، التي يقال إنها استعملت لأول مرة لفظة الحب للتعبير عن إقبالها على الله، وإعراضها عن كل ما سواه.
وهذا الحب الإلهي هو المحور الذي دار حوله اهتمام المتصوفة لأنه الحب الأمثل الذي يفنون فيه فناء يحقق لهم السعادة والاطمئنان.
ثم أخذ الفكر الصوفي ينطوي على كثير من التعقيد بفعل مؤثرات دخيلة على الإسلام من بوذية وإغريقية ومسيحية. وكان أن ظهر في السنين العباسية المتأخرة عدد من الشعراء الأعلام في التصوف مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت309هـ/921م) الذي تم فيه تنفيذ حكم القتل، وكان يعتقد باتحاد الناسوت، أي الروح الإنساني، باللاهوت، أي الروح الإلهي. كما ظهر في أواخر العصر العباسي عدد من كبار المتصوفة الذين نظموا أشعاراً كثيرة عرضوا فيها مذهبهم بأسلوب رامز يعتمد تعابير العشاق وألفاظ المحبين، مثل ابن الفارض (ت632هـ/1234م) الذي يقول في إحدى قصائد ديوانه الصغير الشهير متغنياً فيها بخمرة الوحدة الإلهية:
شــربنا على ذكر الحبيب مدامــة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرموقد أفاض في عرض مذهبه في المجاهدة ونظرته في وحدة الوجود ضمن مطولة شعرية بلغت سبعمئة وستين بيتاً، وتعرف بنظم السلوك.
التغزل : أبو نواس
خطا النَّظم في العصر العباسي خطوة كبيرة حيث استطاع مواكبة العصر، فازدهر المديح بفعل ازدهار الحياة الاقتصادية وتطور الحياة الاجتماعية، مع ميل الخلفاء إلى الترف وحب الإطراء، فأقبل الشّعراء يقصدون بغداد والعواصم الأخرى للإقامة في جوار القصور[1].
وقوي الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحاحهم في طلب الجوائز.
وقوي الهجاء كذلك بدافع تحاسد الشعراء، وإلحاحهم في طلب الجوائز.
أما الغزل فقد مال به أصحابه بصورة عامة إلى التهتك والإباحية والفحش في الألفاظ، وكثر في هذا العصر الخلعاء والشّعراء الماجنين وأهمهم أبو نواس، وحماد عجرد، ومطيع بن إياس، وهناك فئة من المتعففين أمثال البحتري والعباس بن الأحنف، والشريف الرضي، فكانت قصائدهم صادرة عن وجدان فيه البراءة والمحافظة على الآداب العامة[2].
وازدهر في المراحل الأخيرة من العصر العباسي، مع اضطراب الأحوال السياسية وكثرة المعمرين، شعر الاعتداد بالنفس، الذي ظهر عند أبي الطيب المتنبي، وأبي فراس الحمداني[3]، وغيرهما.
واشتهر في هذا العصر أيضا شعر الخمرة، وارتقى مع أبي نواس، الذي تجاوز الأعشى وابن كلثوم في هذا الفن، وجعل من خمرياته رمزا للتجديد وأساسا لنشر الآراء وفلسفة الحياة والوجود[4].
ومن الفنون الشعرية أيضا الوصف الذي شمل الطبيعة المطبوعة، والطبيعة المطبوعة، والطبيعة المصنوعة، فاهتم الشّعراء بوصف قصور الملوك وبركهم وكذا الأنهار، والرياض[5].
وازدهر أيضا شعر الزهد والتذكير بالآخرة كردة فعل على الترف والملذات والخروج عن الدين والملة، ومن أعلامه أبو العتاهية وأبو العلاء المعري وغيرهما.
كما ظهر في هذه الفترة شعراء للصفوة وآخرين للفقراء، حيث وصفوا أنفسهم وصفا ساخرا متخذين من شعرهم وسيلة للتكسب واستدرار عطف الناس، ومن هؤلاء أبو دلامة والشمقمق وغيرهما.
واشتهر شعر شكوى الدّهر والرّثاء الذي قد اتسع إلى رثاء الأمم والحيوان، وكذا الشّعر السياسي الذي كان نتيجة الصراع بين القوى المتنافسة[6]، ضف إلى ذلك الشّعر التعليمي الذي كان على يد إبان بن عبد الحميد اللاّحقي الذي عمل على إشاعة مثل هذا الشّعر، حيث أنّه نظّم كليلة ودمنة في أربعة عشر ألف بيت.
اتجه الغزل في هذا العصر اتجاهين، فهناك الغزل الماجن المادي الصريح، وهناك في مقابله الغزل العفيف الصادق في الأحاسيس. وهذا الأخير مثله العباس بن الأحنف والبحتري، والقلة من الشعراء.
يقول شوقي ضيف في العباس بن الأحنف إنه كان ذا "شخصية ظريفة حقا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل، لكن دون تبذل أو تصريح بعهر و فحش"[7]، كما هو في قوله :
قـَـــــالَتْ ظّلومُ سمّية الظلمِ - - مــالي رَأَيتكَ نَاحلَ الجِسْمِ
يَا مَنْ رَمى قَلبِي فأقصدهُ - - أنت الخَبِيرُ بمَوْقعِ السَّـْـهمِ[8]
وكذا قول البحتري في عذريته وحبه العفيف الواضح في أبياته:
طيفُ البَخِيلةِ، وَافانَا فَنَبَهَنَا - - بعرفه، أمْ خِتَام المِسكِ مَغْضُوض؟
لَهَا غَرائِبُ دل مَا يَزَالُ لَهَا- - عَلَى الغَرَامِ بِنَا، بَث وتَحْرِيض[9]
كما سلك بعض الشعراء الآخرين طريق الغزل الماجن ومن بينهم بشار بن برد، وابن الرّومي ومطيع ابن إياس الذي برع في هذا الفن[10]. وجاء في كتاب الفن ومذاهبه في الشعر لشوقي ضيف أن لمطيع بن إياس مقطوعات وقصائد لا يمكن سوقها لما فيها من فحش داعر، وفجر فاجر، فمثلا في قوله[11]:
أتَتْنِي الشَّمْسُ زَائِرَةً - - وَلَمْ تَكُ تَبْرَحُ الْفَلكا
تقول وقدْ خلوتُ بها - - تحدّثْ واكفني يدكا
وقوله أيضا:
إكْلِيـلها ألـوَان — وَوَجْهُهَا فَتَان
إذا مَشَتْ تَثَنَتْ — أَنَّهَا ثُعْبَـان[12]
تفنن وأبدع بشار هو الآخر في الغزل الماجن وكانت له طريقته الخاصة، حيث أنه كان يصور جمال المرأة عن طريق أذنه وكان يرى أن العين قاصرة على تصوير الجمال إلى القلب، هذا لأنه كان أعمى، وكانت أذنه تقوم مقام عينه[13]، وقد صور رأيه في أبيات جميلة من بينها، البيت الأوّل شطره الثاني الذي لا يزال متداولا في العالم بأكمله قائلا:
يـا قَـومُ أُذني لِبعَضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ - - وَالأُذنُ تَـعشَقُ قَـبلَ العَينِ أَحيانا
فَقُلتُ أَحسَنتِ أَنتِ الشَمسُ طالِعَةٌ - - أَضرَمتِ في القَلبِ وَالأَحشاءِ نيرانا
فَـأَسمِعينِيَ صَـوتاً مُـطرِباً هَزَجاً - - يَـزيدُ صَـبّاً مُـحِبّاً فيكِ أَشجانا
يـا لَـيتَني كُـنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً - - أَوك ُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا
حَـتّى إِذا وَجَدَت ريحي أَعجَبَها - - وَنَـحنُ فـي خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا
فَـحَرَّكَت عودَها ثُمَّ اِنثَنَت طَرَباً - - تَـشدو بِـهِ ثُمَّ لا تُخفيهِ كِتمانا
أَصـبحتُ أَطوَعَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ - - لأَكـثَرِ الخَلقِ لي في الحُبِّ عِصيانا[14]
ومن الذين أبدعوا أيضا في هذا الفن نجد الحسن بن هانئ، أبا نواس، الذي أوصله إلى حد الفحش والفجور، ويقول في إحدى الجواري:
كَتَبَت عَلى فَصٍّ لِخاتَمِها - - مَن مَلَّ مَحبوباً فَلا رَقَدا
فَكَتَبتُ في فَصٍّ لِيَبلُغَها - - مَن نامَ لَم يَعقِل كَمَن سَهِدا
فَمَحَتهُ وَاِكتَتَبَت لِيَبلُغَني - - لا نامَ مَن يَهوى وَلا هَجَدا
فَمَحَيتُهُ ثُمَّ اِكتَتَبتُ أَنا - - وَاللَهِ أَوَّلُ مَيِّتٍ كَمَدا
فَمَحَتهُ وَاِكتَتَبَت تُعارِضُني - - وَاللَهِ لا كَلَّمتُهُ أَبَدا[15]
ويقول في موضع آخر مصرحا بفجوره في قصيدة من البحر الطويل:
وناهِدَةِ الثّدْيَينِ من خَدَمِ القَصْرِ - - سبتْني بحسْنِ الجيدِ والوَجْهِ والنّحرِ
غُلاميّةٌ في زِيّهَا، برْمكيَّةٌ، - - مزوَّقَةُ الأصْداغ، مطمومةُ الشعْرِ
كلِفْتُ بما أبصرْتُ من حُسنِ وَجهِها - - زماناً، وما حبّ الكواعبِ من أمْري
فما زلتُ بالأشْعَارِ في كلّ مَشْهَدٍ - - أُلَيّنُها، والشِّعْرُ من عُقَدِ السّحْرِ
إلى أن أجابَتْ للوصالِ، وأقبلَتْ - - على غيرِ ميعادٍ، إليّ مع العصْرِ
فقلتُ لها: أهلاً ودارَتْ كؤوسنا - - بمشمولةٍ كالورْسِ، أوشُعَل الجمرِ
فقالت: عساها الخمر؟ أنّي بريئةٌ - - إلى الله من وَصْلِ الرّجالِ مَعْ الخمرِ
فقلت: اشربي إن كان هذا محرّماً، - - ففي عنُقِي يا ريمُ وزرُكِ معْ وزْرِي
فطالبَبْتُها شيئاً فقالت بعبرةٍ: - - أموتُ إذنْ منهُ، ودمعتُها تجري
فما زِلتُ في رِفقٍ، ونفسي تقولُ لي: - - جويريّةٌ بكْرٌ! وذا جزعُ البِكْرِ[16]
تغزل أبو نواس بالجواري وهام بهن وكان غزله فاحشا، كما تغزل أيضا بالغلمان واستطاع أن يحقق أعلى درجات المجون التي وصل إليها العصر العباسي، وتعد كمظهر من مظاهر عولمة هذا العصر بعد أن كان عصرا عربيا أعرابيا ليصبح بدخول العنصر الأعجمي عربيا أعجميا.
التغزل بالغلمان عند أبي نواس
تهيأ أبو نواس أن يكون من أول مبتدعي هذا الباب عند العرب، وأشهر أعلامه، إلا أن شهرته في الواقع مخزية، لأن أغلب شعره في هذا الموضوع حافل بالشذوذ والخلاعة العارمة يحمل من وصف المنكرات والعار والمرض الأخلاقي، فغزله هذا لا يخلو من الاستهتار والفحش، يأخذ ظاهرة الميل إلى المذكر التي كانت ظاهرة في ذلك العصر، ويراها البعض ظاهرة حضارية مألوفة في الحضارات الإنسانية الكبرى.
ولكن بعض النقاد يعزون سبب ميل أبي نواس إلى الغزل بالمذكر إلى الصّد والبين الذي كان يلقاه من امرأة أحبها كانت تسمى جنان، وهي جارية لآل عبد الوهاب الثقفي، أحبها الحسن ابن هانئ حبا عنيفا قويا، وكتب فيها أرق شعره. لكن جنان لم تبادله هذا الشعور" فلم يكن هذا الحب إلا من جانب واحد فحسب، ويستفاد من أخبارهما التي ترويها كتب الأدب أن جنان كانت تنكر أشد الإنكار هذه العلاقة، فلم يحظ منها حتى بعطف الرثاء والإشفاق، وقالت لامرأة تعرضت لها بشيء مما يتحدث به الناس: واضيعتاه؟ لم يبق لي غير أن أحب هذا الكلب"[17].
ويقال إن أبا نواس لم يخلص في حبه إلا لها، وأول ما كلفه بها أنّها مرت وهو جالس في المربد مع فتيان من أهلها يتنزهون وينشدهم الأشعار، فأبرزت عن وجه بارع في الجمال، فجعل ينظر إليها، فقال له أصحابه، خرجت عن حدك الذي كنت تنتسب إليه يا أبا نواس، يعني من حب الغلمان إلى حب النسوان فأنشأ يقول في قصيدة من بحر المنسرح:
إنّي صرفتُ الهوَى إلى قمَرِ - - لا يتحدّى العُيونَ بالنّظَرِ
إذا تأمّلتَهُ تعاظَمَكَ الإ - - قْرَارُ في أنّهُ من البَشَرِ
ثم يعودُ الإنكارُ معرفةً - - منكَ إذا قستَه إلى الصورِ
مُباحةٌ ساحةُ القلوبِ لهُ،- - يأخذُ منْها أطايِبَ الثّمرِ[18]
كان أبو نواس في طليعة من ابتدعوا فن الغزل بالمذكر وهو عيب على الأعراب، ويصرح بذلك جهرا في قوله:
دَعِ الطَّلَلَ الذِّي انْدَثَرَا - - يُقَاِسي الرِّيحَ وَالمَطَرَا
أَلَمْ تَرَى مَا بَنَى كِسْرَى - - وَسَابُورَ لِمَنْ غَبَرَا
مَنَازَةُ بَيْنَ دِجْلَةَ وال - - فُرَاتِ تفيَّأَتْ شَجَرَا
بِأَرْضٍ بَاعَدَ الرَّحَمَ - - نُ عَنْهَا الطَّلْحُ والعُشْرَا
وَلَمْ يَجْعَلْ مَصَايِّدَهَا - - يَرَابِيعًا، وَلَا وَجَرَا
وَلَكِن حَوُر غِزْلانٍ - - ترَاعِي بِالمَلا بَقَرَا[19]
ويرى طه حسين أن الغزل بالمذكر أو الغلمان اتجاه جديد لم يكن معروفا في الجاهلية والإسلام وعصر بن أمية، إذ هو من آثار الحضارة العباسية، والأمر الغريب أن أبا نواس يجهر بغزل المذكر رغم أن وجود الجواري في هذا العصر، وقد مال إليهن في قوله:
وَبَـديــعِ الحُـسْــنِ قـد فـَــا - - قَ الرَّشَا حُسْناً ولِينَا
وَبَـديــعِ الحُـسْــنِ قـد فـَــا - - قَ الرَّشَا حُسْناً ولِينَا
تَحْـسَـبُ الوَرْدَ بخَـدّيْـ - - ــهِ يُـنَـاغي اليَــاسَـمِــينـَـــا
كلّما ازْدَدْتُ إلَـيْـــهِ - - نَــظَــراً زِدْتُ جُنــونَــا
ظَلّ يَسْقِينَا مُداماً، - - حَلّتِ الخِدْرَ سِنينَا
وتَـغَـنّـيْـنَـا بــحِــذْقٍ: - - يا دِيــار الظّــاعِنيـنـــا
فاسْـقيـنـا، حتى أوَانِ الْـ - - ـحَجّ، لا تسْقِ الضّنِينَا[20]
استطاع أبو نواس أن ينقل أوصاف المرأة إلى الغلمان. ولولا استخدامه ضمير المذكر، لا يمكن التعرف على المتغزل فيه. ويقول في ذلك (البحر: مجزوء الرمل):
قل لذي الطّرفِ الخَلوبِ، - -ولِذي الوجهِ الغَضُوبِ
ولمن يثني إليهِ ال - - حسنُ أعناقَ القلوبِ
يا قضيبَ البانِ يهتزّ - - على ضِعْسٍ كثيبِ
قد رضينَا بسلامٍ، - - أو كلامٍ من قريبِ
فبروحِ القُدس عيسى، - - وبتعظيمِ الصّليبِ
قفْ إذا جِئْتَ إلينا، - - ثمّ سلّمْ يا حَبيبي[21]
بلغ العصر العباسي درجة من الفحش والمجون، لم تكن معروفة في عصور خلت. ويؤكد النويهي على أن نفسية أبي نواس نفسية معقدة لا يمكن فهمها إلا بتحليلها وفق المنهج النفسي الحديث. وقد تناول في سبيل الوصول إلى فهم نفسيته وشعره العديد من الظواهر التي التصقت به، فوقف طويلا أمام الخمر، والشذوذ الجنسي، والنشوة الدينية وما يصاحبها من دعوة إلى الإباحية[22].
وأكدّ معظم الدارسين أن أبا نواس من الشعراء الخلعاء الذين أجهروا بفجورهم خاصة في ميدان التغزل بالغلمان كمشهد لم يظهر عند الشعراء السابقين، وهو مظهر من مظاهر عولمة الشعر العباسي بعد دخول العنصر الأعجمي، وأنه الرائد في هذا الفن وفتح المجال للشعراء فيه.
= = = = =
الهوامش
[1] مصطفى السيوفي، تاريخ الأدب في العصر العباسي، ط1 ،2008.،الدار الدولية،.القاهرة، ص37 .
[2] المرجع نفسه ص 37.
[3] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ط08، دار المعارف، مصر، ص309.
[3] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ط08، دار المعارف، مصر، ص309.
[4] إليا الحاوي، في النقد و الأدب ،ط2 1986، ج3، دار الكتاب اللبناني.بيروت، ص31.
[5] عمر فروخ ، بشار بن برد، ط1979، دار لبنان للطباعة، ص31.
[6] ذو النون المصري، المنتخب من عصور الأدب، ج1، عالم الكتب، لقاهرة، ص107 .
[7] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ص 68 .
[8] المرجع نفسه، ص 68 .
[9] البحتري، .خليل شرف الدين،.ص 153.
[10] شوقي ضيف، الفن و مذاهبه، ص 66.
[11] المرجع نفسه ص 64 .
[12] المرجع نفسه ص 65 .
[13] ينظر، عمر فروخ، بشار بن برد، ص 120 .
[14] المرجع نفسه، ص 120 .
[15] أبو نواس، ديوانه، حققه وضبطه، أحمد عبد المجيد الغالي،ط2010م*1431ه، دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان، ص207.
[16] المصدر نفسه، 209.
[17] أمينة عبد الله الحشاني، الدراسات النقدية الحديقة عن أبي نواس، مجلس الثقافة العام بالقاهرة، 2006، ص 12.
[18] المصدر نفسه، ص193.
[19] المصدر نفسه، ص 18.
[20] المصدر نفسه، ص 121.
[21] المصدر نفسه، ص273.
[22] المصدر نفسه، ص 151.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق