العرب من ملك الأندلس إلى سقوطها
لا شك أن سقوط دولة الأندلس في شبه الجزيرة الأيبيرية هو جرح في قلب كل مسلم غيور على دينه وأمته، بل الأكثر إيلامًا وكمدًا من جرح السقوط هو ما حدث بعد السقوط من مذابح وقتل وتعذيب وتهجير للمسلمين في الأندلس.
وحتى لا ننسى تاريخنا المظفر الحافل بالأمجاد والبطولات على أرض هذه الجزيرة، سأحاول في هذا المقال عرض وسرد أحداث ثماني قرون عشناها هناك عن طريق الوقوف على سيرة أبرز الشخصيات التي سطرت بدمائها هذا التاريخ المجيد.
طارق بين زياد
أيها الناس، أين المَفَرُّ؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، وقد اسْتَقْبَلَكم عدوّكم بِجَيْشِهِ وأَسْلِحَتِهِ، وأَقْواتُه موفورةٌ ، وأنتم لا وَزَرَ لكم إلا سيوفُكم ولا أقواتَ إلا ما تَسْتَخْلِصُونَه من أيدِي عدوِّكم،…
هكذا استهل طارق ابن زياد حديثه إلى جنده قبيل معركة وادي برباط في 28 من رمضان للعام 92 من الهجرة.
عبر طارق بن زياد بسبعة آلاف مقاتل المضيق -الذي مازال يحمل اسمه حتى يومنا هذا- بتكليف من قائده الأعلى والي إفريقيا للخليفة الوليد بن عبد الملك موسى بن النصير، والذي استنجده طارق قبيل معركة وادي برباط فمده موسى بن النصير بطريف بن مالك على رأس خمسة ألاف مقاتل.
لتبدأ معركة وادي برباط في 28 من رمضان بين طارق بن زياد على رأس 12 ألف من المسلمين ضد ملك القوط لذريق ومعه 100 ألف من الجند، لتنتهي المعركة بعد ثمانية أيام على نصر ساحق للمسلمين، ومقتل -أو هرب- لذريق ملك القوط، وسرعان ما استغل طارق بن زياد الفرصة محاولًا فتح كامل الجزيرة الأيبيرية.
فبينما كانت طليطلة عاصمة القوط تشهد صراعات بين أنصار لذريق وأنصار الملك السابق غطيشة على من يتولى الحكم، كان طارق بن زياد مسرعًا إليهم بجيشه فاتحًا في طريقة شذونة و مرور و إستجة، ومرسلًا السرايا؛ لفتح باقي المدن فأرسل بسرايا إلى كلٍ من مالقة وقرطبة وغرناطة ومرسية، وكان بعض هذه السرايا لا يتعدى 700 مقاتل.
واصل طارق بن زياد زحفه فاتحا كامل الأراضي الأيبيرية مخالفًا أوامر موسى بن النصير؛ التي كانت تقتضى بالتمهل والحذر وعدم التسرع في التوجه إلى طليطلة. وصل طارق بجيشه ودخل طليطلة ولم يكتفى بذلك، بل واصل الزحف شمالًا إلى مملكتي قشتالة وليون، وظل يطارد القوط عبورًا بجبال استورياس وصولًا إلى خليج بسكونية على المحيط الأطلسي.
وعندما علم المسلمون بالجهاد في الأندلس، تدفقوا من كل حدب وصوب إلى بلاد المغرب العربي؛ حيث عبر موسى بن النصير بـحوالي 18 ألف إلى الأندلس، وفى طريقة فتح اشبيلية بعد حصار دام شهور، وأرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن النصير فاتحًا لبلاد البرتغال.
والتقى أخيرًا بطارق بن زياد في طليطلة وعنّفه تعنيفًا شديدًا على مخالفته لأوامره ثم اتجها سويا فاتحين برشلونه ثم سرقسطة وأرسل موسى بن النصير سريه إلى مدينة أربونة جنوب غرب فرنسا، وواصل المسلمون فتح باقي مدن الأندلس حتى تم الانتهاء من فتح كامل الجزيرة الأيبيرية في العام 95 هـ، ما عدا مكان صغير يُدعى صخرة بلاى على المحيط الأطلسي، وما أن عزم موسى بن النصير على فتحه حتى أتاه أمر أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بوقف الفتوحات، والعودة هو وطارق بن زياد إلى دمشق.
عبد الرحمن الغافقي
بعد الفتح أصبحت الأندلس ولاية تابعة إلى الدولة الأموية بدمشق، وتميز هذا العصر بالتأسيس الحضاري والعمراني فأسسوا الإدارة وأنشئوا الكباري والقناطر مثل قنطرة قرطبة العجيبة التي كانت بمثابة تحفة فنية في زمانها، وكان أيضا مما يميز هذا العصر دخول معظم سكان الأندلس إلى الإسلام ونقل العاصمة من طليطلة إلى قرطبة، ولكن كان أهم سماته على الإطلاق هو الجهاد في فرنسا.
وكان من أبرز ولاة هذا العصر السمح بن مالك الخولاني الذي عينة الخليفة عمر بن عبد العزيز سنة 100 هـ، وما كان الأمر يستقر في الأندلس للسمح بن مالك حتى انطلق بجيشه مجاهدًا في فرنسا فاتحًا كامل الجنوب الغربي لفرنسا مؤسسا ولاية إسلامية فى سبتمانيا وظل يجاهد في فرنسا حتى لقي ربه شهيدًا يوم عرفه في معركة تولوز بطرسونة سنة 102 هـ.
خلف السمح بن مالك عبد الرحمن الغافقى لمدة شهرين حتى عين والي إفريقيا عنبسة بن سحيم على الأندلس الذي انطلق مجاهدا في فرنسا فاتحا ما يقرب من 70 % من كامل أراضي بلاد الغال حتى وصل إلى مدينة سانس التي تبعد عن باريس حوالى 30 كيلو متر فقط، واستشهد عنبسة وهو في طريق عودة إلى الأندلس متأثرا بجراح أصيب بها في بعض معاركه.
تولى الخلافة بعد عنبسة بن سحيم بعض الولاة الذي لم يكونوا كسابقيهم بل بدأت الاضطرابات وعلا صوت العنصرية بين العرب والبربر حتى وصلت الولاية إلى عبد الرحمن الغافقي الذي استطاع بتقواه وعدله وحسن سياسته توحيد صفوف المسلمين، واستكمل الفتوحات فاتحا أقصى الغرب الفرنسي متجها إلى باريس ففتح مدينة أرل ثم طلوشة ثم تور ثم وصل إلى بواتيه التي تسبق باريس مباشرة -حوالي مائة كيلومتر إلى الغرب من باريس-.
ويعد جيش الغافقى هو أكبر حمله دخلت فرنسا حيث كان تعداد جيشه 50 ألف مقاتل، في مواجهة ما يقرب من 400 ألف تحت قيادة شارل مارتل الذى جمعهم من جنود ويهود ومرتزقة، ودارت رحى الحرب الطاحنة فى بواتية على مقربة من باريس.
وكادت أن تنتهى المعركة على نصر للجيش الإسلامي والظفر بفتح باريس نفسها ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث كانت الهزيمة الساحقة للجيش الإسلامي بعد مقتل عبد الرحمن الغافقي في اليوم العاشر وانسحاب المسلمين إلى الجنوب، وكانت هذه النقطة هي أبعد ما وصلت إليه الجيوش الإسلامية وتوقفت الفتوحات في فرنسا بعد الهزيمة التي من شدة هولها لم يكن المؤرخون المسلمون يتحدثون عنها.
بينما أطنب المؤرخون الأوربيون بالحديث فيها وأفردوا لها مجلدات ومجلدات، وكان من الغرابة وصف بعض المؤرخين الأوروبين لنصر شارل مارتل على الجيش الإسلامي بالنصر الكارثي حيث قال المؤرخ أناتول فرانس
إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو حين هزم شارل مارتل الفرسان العرب في بواتية سنة 732 م؛ ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوروبية.
عبد الرحمن الداخل
وظلت الأندلس تتبع الخلافة الأموية بدمشق حتى استقل بها آخر أمراء عصر الولاة يوسف الفهري عن الدولة الأموية، وبعد أن اكتسحت الرايات السود القادمة من خرسان للدولة الأموية وقتل آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد وأعلن قيام الدولة العباسية واتخاذ بغداد عاصمة لها، شرع العباسيون في قتل الأمراء الأمويين وأبناءهم حيث لم ينجوا من القتل إلا قلة من الأمويين هربًا وتفرقًا في البلاد.
وكان من هؤلاء الذين لم تصل إليهم سيوف العباسيين هو عبد الرحمن بن معاوية حفيد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وعمه هو القائد الرباني مسيلمة بن عبد الملك الذي تنبأ بزوال ملك بني أمية في الشرق وهروب فتى من بنى أمية ليقيمه في الغرب، وبعد مطاردات لسنوات عدة وصل أخيرا عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس.
وبمساعدة خادمة بدر دخل عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس التي كانت جاهزة تمام إلى استقباله، كان يحكم الأندلس يومئذ يوسف الفهري بمساعدة القيسية، وبمجرد أن دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس بدأ يجمع حوله محبي الأمويين من العرب والبربر واتفق مع العرب اليمنية وبعض القبائل المعارضة ليوسف الفهري وبعض الأمويين الهاربين من العباسيين.
وفى ذي الحجة سنة 138 هـ دارت معركة المصارة بين يوسف الفهرى ومعه القيسية من جهه ومن الجهة الأخرى عبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد كليا على اليمنية، ودارت رحى الحرب على معركة قوية انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية وفر يوسف الفهري، وما إن سارع اليمنية في مطاردة القيسية حتى قال عبد الرحمن بن معاوية كلماته الخالدة:
لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوة منهم.
نعم، إنه عبد الرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، إنه سليل الخلفاء والملوك إنه رجل ليس في قلبه غل ولا حقد ممن كانوا حريصين على قتله منذ سويعات قليلة.
وحاول بعض الجند نهب قصر يوسف الفهري وسبي أولاده وحريمه فسارع عبد الرحمن بن معاوية وطرد الناس وكسى من عرى منهم ورد ما قدر على رده بل وأقام بظاهر قرطبة ثلاثة أيام حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم ويرحلوا بأمان.
ودخل عبد الرحمن بن معاوية قرطبة عاصمة الأندلس ولقب بعبد الرحمن الداخل وقام بتأسيس الإمارة الأموية في الأندلس التي بدأت منذ العام 138 هـ حتى العام 316 هـ، وخلال فترة حكم الداخل التي امتدت 34 سنة قامت عليه حوالي 25 ثورة أخمد جميعها بذكاء عجيب وترك البلاد في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ وتوفى بقرطبة ودفن بها سنة 172 هـ.
عبد الرحمن الناصر
وتولى الإمارة بعد عبد الرحمن بن معاوية ابنه هشام (17 – 180) ومن بعده الحكم بن هشام (18 – 206) الذي كان ظالما سيء الخلق وفى عهده سقطت برشلونة في يد النصارى وأصبحت إمارة نصرانية تعرف في التاريخ باسم إمارة أراجون ولكنه ندم في آخر عهده واعتذر إلى الشعب واختار أفضل أبناءه ولى للعهد ثم مات بعدها بعاميين.
تولى بعد الحكم بن هشام ابنه عبد الرحمن الملقب بعبد الرحمن الأوسط وكانت فترة حكمه من أزهى فترات الأندلس حيث كان عادلا حسن السيرة مهتما بالعلوم مستأنفًا للجهاد وأول من ضرب الدراهم في الأندلس وهو من بنى سور إشبيلية وأول من أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس.
ومن أهم مميزات عصرة ازدهار الحضارة العلمية والمدنية وأوقف همجية غزوات النورمان الفايكينج حيث دارت بينه وبينهم معركة بحرية طاحنه بعد أن هاجموا مدينة اشبيلية انتهت بإغراقه لمعظم سفنهم وهزمهم هزيمة نكراء ووصلت البلاد في عهده من العزة أن جاءته الهدايا من القسطنطينية.
وبعد وفاة الأوسط سنة 238 دخلت الإمارة في مرحلة ضعف استمرت لسنة 300، يمكننا تلخيص سمات هذه الفترة بالآتي:
- تصاعد وكثرة الثورات نتيجة لظلم الولاة.
- تجرأ مملكة ليون على حدود الدولة الإسلامية.
- وقيام مملكة نصرانية جديدة انشقت عن مملكة ليون سميت مملكة نافار.
- ظهور نجم دولة شيعية ( الدولة العبيدية ) في بلاد المغرب.
ويكاد الناظر إلى أحوال الدولة الإسلامية في الأندلس يجزم أنه ما هي إلى شهور أو سنوات على الأكثر حتى سقوط هذه الدولة في يد مملكة ليون، وتحتاج هذه الدولة إلى معجزة لمجرد البقاء، وكانت المعجزة حقًا هي وصول عبد الرحمن الناصر إلى الحكم سنة 300، بعد وفاة جده الأمير عبد الله.
وخلال ستة عشر سنة قام الناصر بتغير التاريخ وحول الأندلس من دولة معرضة للسقوط إلى أعظم دولة على وجه الأرض في زمانه حيث أخمد الثورات وأعاد توزيع المهام والمناصب وقضى على ثورة صوميل بن حفصون أخطر ثورات الأندلس، وأعاد جمع شمل دولة الأندلس بعد ستة عشر عاما من الكفاح المضني.
ثم نظر عبد الرحمن الناصر إلى الشرق فوجد أن الخليفة في بغداد قد قتل ويحكم السلاجقة بغداد فعليا وأن المغرب العربي يحكمه العبيديون الشيعة فوجد أن الأندلس هي الأحق الآن بلقب دولة الخلافة؛ فأعلن الإمارة الأموية خلافة إسلامية، وهنا بدأ عهد الخلافة الأموية في الأندلس.
بعد ثلاث سنوات من قيام دولة الخلافة الأموية في الأندلس هاجم الناصر العبيديين في المغرب وضم مدينتي سبتة وطنجة إلى حكمه، وفى سنة 323 تأتى الخيانة من حاكم السراقسطة الذي تحالف مع مملكة ليون لحرب الناصر التي انتهى الأمر بالناصر مؤدبا له ومسيطرا على سراقسطة غازيا مملكة ليون من سراقسطة سنة 326.
وفى عام 327 كان الناصر يملك أقوى قوة عسكرية عرفتها الأندلس 100 ألف مقاتل ذهب بهم في غزوة إلى مملكة ليون انتهت بهزيمة منكرة ومقتل وأسر ما يقرب من 50 ألف من جيش الناصر.
وسرعان ما عاد الناصر إلى سابق عهدة لتدور رحى الحروب بينه وبين مملكة ليون من العام 329 حتى عام 335 حتى أيقنت مملكة ليون بالهلاك فطلبت الأمان، والمعاهدة على الجزية يدفعها للناصر، وأن لم يمنع هذا نشوب بعض المعارك حتى عام 350، توفى الناصر سنة 350 تاركا الأندلس الدولة الأولى في العالم حضاريا ومعماريا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا.
الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر
وتولى الخلافة بعد الناصر الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر الذي كان ورعا تقيا حسن السيرة والخلق مهتما بالعلم والكتب حتى أصبحت قرطبة في عهده بلد العلم والعلماء وأسس المكتبة الأموية التي تعتبر أعظم مكتبات العصور الوسطى على الإطلاق.
وكان مجاهدًا عظيمًا استطاع أن يهزم جيوش الممالك النصرانية الثلاثة مجتمعة وحاول السيطرة على بلاد المغرب في الشمال الإفريقي وتوفى سنة 366 بعد أن أخذ البيعة لابنه هشام الذي ما يزال طفلا.
تولى الخلافة هشام بن الحكم وهو طفلا بن أحد عشر عامًا بعد محاولات من قبل بعد الفتيان الصقالبة بإبعاد الخلافة عنه إلى عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، استطاع إجهاضها جعفر الحاجب وأمه صبح البشكنسية ومحمد بن أبى عامر، وبعد عدة أعوام وبدهاء استطاع محمد بن أبى عامر الوصول إلى منصف الحاجب والإطاحة بجعفر الحاجب والسيطرة التامة على مقاليد الحكم في الأندلس.
وبهذا تدخل الأندلس مرحلة الدولة العامرية التي ما هي إلا امتداد لدولة الخلافة الأموية، وتعتبر الدولة العامرية هي ذروة القوة والازدهار في الأندلس وأقوى فتراتها على الإطلاق.
كان ابن أبي عامر ذكي موهوب حسن السياسة بارع في الإدارة ومجاهدا عظيما لم تهزم له راية قط، وأنشأ مدينة الزاهرة على غرار مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن الناصر، وبنا له قصر فيها ونقل إليها الوزارات والدواوين، وفى بداية عهد محمد بن أبى عامر تمرد عليه قائد جيشه ووالد زوجته الذي ساعده في الوصول إلى منصب الحاجب غالب الناصري.
فسار إليه محمد بن أبي عامر بجيش من قرطبة، فاستعان غالب الفهري بملك ليون، والتقى الجيشان في معركة مثيرة، وأثناء المعركة رفع غالب يده بالدعاء قائلًا:
اللهم إن كنت أصلح للمسلمين من ابن عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح فانصره
وخرج غالب خارج المعركة يريد الاختلاء بنفسة، فتبعوه، فوجدوه ميتًا بدون طعنة أو رمية، وما أن علم جيش غالب المسلم بوفاته حتى انضموا إلى جيش ابن أبى عامر فوقع جيش ليون في مأزق، لتبدأ من هنا مسيرة محمد بن أبى عامر الجهادية ضد الممالك النصرانية لمدة 27 عامًا انتهت جميعها بالنصر للمسلمين.
وحيث قال رسول الله لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم، فكان ابن أبي عامر بعد كل معركة ينفض ثوبه ويجمع الغبار الذي يخرج منه ويضعه في قارورة، وأمر بأن تدفن معه حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى.
المعتمد بن عباد ويوسف بن تاشفين
بعد وفاة المنصور محمد بن أبي عامر سنه 392 تولى الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور سار فيها على نهج والده حتى مات سنة 399، وتولى بعده أخيه عبد الرحمن بن المنصور وكان ماجنا فاسقا وعلى يده وفى أقل من سنة سقطت الدولة العامرية والخلافة الأموية.
ودخلت الأندلس في مرحلة من التفتت والتشرذم التي سميت بعصر ملوك الطوائف، حيث كانت مساحة الأندلس حوالي 600 ألف كم مربع منها 450 ألف كم مربع فى يد المسلمين مقسمين إلى 22 دولة وبيد النصارى منها 150 ألف كم مربع مقسمين إلى أربع دول.
وصلت الأندلس تحت حكم ملوك الطوائف إلى أسوء عصورها المظلمة، وصلت إلى مرحلة من التفتت والتشرذم والمولاة للنصارى ودفع الجزية لهم في ذلة ومهانة والاستعانة بهم ضد الممالك الإسلامية الأخرى وربما يستعين أحدهم بمملكة نصرانية فيستعين الآخر بالمملكة النصرانية الأخرى.
ظل هذا التفتت في الأندلس حتى سقطت طليطلة في يد ملك قشتالة الفونسو السادس سنة 487 فكان سقوط طليطلة كالصاعقة على العالم الإسلامي أجمع من بغداد إلى الأندلس مرورا بدمشق والقاهرة وإفريقيا والمغرب العربي، كان سقوط طليطلة إنذار بقرب سقوط الأندلس جمعاء.
وكانت خطة الفونسوا بعد سيطرته على طليطلة هي السيطرة على إشبيلية وكان يحكمها المعتمد بن عباد الذي أرسل إليه ألفونسو رسوله لتحصيل الجزية بعد تأخر المعتمد عن موعد الدفع وكعقاب للمعتمد طلب ألفونسو أن يتسلم بعض الحصون فوق الجزية وأن تلد امرأته في مسجد قرطبة حيث أن القساوسة أشاروا عليه بنقاء الهواء في هذا الجامع، فغضب المعتمد بن عباد وقطع رأس رسول ألفونسو وصلبه بقرطبة واعتقل بقية الوفد.
فحاصر الصليبيون اشبيلية حصارا شديدا خلاله عرف المعتمد بن عباد فداحه جرمه وخطأه فى دفع الجزية إلى ألفونسو وقتاله للممالك الإسلامية وأيقن أنه لا طاقة له بألفونسو إلا بالاستعانة بدولة المرابطين في المغرب العربي وقائدهم يوسف بن تاشفين.
حينها عاتبه البعض قائلين له إن الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد؛ قصدًا منهم بأنه لو استعان بالمرابطين وأدخلهم إلى الأندلس لن يخرجوا منها وسيضمها ابن تاشفين إلى مملكته، وهنا كان رد المعتمد بن عباد الذي سجله التاريخ حيث قال:
إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير
قصدًا منه بأنه إذا أخذها المرابطون خير من أن تسقط في يد النصارى.
وبالتعاون مع مملكة بطليموس ومالقة أرسل المعتمد إلى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين يستنجد به ضد ألفونسو ومما زاد في الأمر أن أرسل ألفونسو رسالة إلى يوسف بن تاشفين خاطبه فيها بكل وقاحه متمنيًا لو كانت له سفن لعبر بها البحر لقتاله في أرضه.
فما كان من يوسف بن تاشفين إلا أن قلب الرسالة وكتب على ظهرها “لا كتب إلا المشرفية والقنا ولا رسل إلا بالخميس العرمرم” ثم عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس ثم أرسل إلى ألفونسو يخيره بين الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، ثم جمع حوله الجند وسار بهم إلى الزلاقه -حيث عسكر بها جيش ألفونسو-.
وبعد صلاة فجر يوم الجمعة 12 من رجب سنة 479 بدأ الفونسو بالهجوم غادرا بما اتفق عليه مع ابن تاشفين بأن يكون القتال يوم الاثنين وصدم جيش المسلمين وفوجئ وانحط عليه جيش الفونسو بجنود تملأ ما بين السماء والأرض وصمد الجيش الأندلسي في هذه المعركة صمود الأبطال.
حتى إذا ما أنهك الطرفين ظهر يوسف بن تاشفين ببقية جيش المرابطين فنزل من خلف جيش الفونسو إلى معسكره فحرقه عن بكرة أبيه وقتل من فيه وعندما علم جيش الفونسو بأنهم محاصرون، وأن جيش المرابطين خلفهم، رجعوا قاصدين معسكرهم، فكان الالتحام مع جيش المرابطين.
وما زالت المعركة هنا وهناك حتى قبيل المغرب أشار الأمير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف مقاتل مهرة من بلاد السودان وهم حرسه الخاصة في مهمة خاصة فترجلوا ونزلوا إلى قلب الجيش النصراني فاقتحموه وطعن الفونسو في قدمه وأبيد جيش الفونسو عن بكرة أبية وهرب من المعركة هو وخمسمائة من رجالة فقط كلهم مصابين ماتوا في الطريق ولم يصل منهم إلى طليطلة غير مائة.
وعلى رغم من كثرة الغنائم وعددها الذي لا يُحصى، رحل يوسف بن تاشفين بجنده إلى المغرب دون أن يأخذ منها شيئًا، تكرر عبور ابن تاشفين إلى الأندلس ثانيةً سنة 481 ولكن هذه المرة هاله ما رأى من التناحر بين الممالك الإسلامية والموالاة للنصارى؛ فعاد إلى إفريقيا.
حتى جاءته الرسائل من كامل أقطار الدول الإسلامية تطالبه بحتمية العبور وتوحيد الأندلس فكان عبوره الثالث سنة 483 بغرض توحيد الأندلس، وتوفي يوسف بن تاشفين عن عمر يناهز المائة عام سنة 500 بعد أن وحد الأندلس، وضمها تحت راية المرابطين، ووضع حدًا لمهزلة ملوك الطوائف.
أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي
بعد موت ابن تاشفين بعام واحد دارت معركة اقليش التي لقبت بالزلاقة الثانية بين المسلمين في الأندلس تحت راية المرابطين وبين جيش الفونسو الذي لم يعد قادرا على قيادة الجيش فأرسل ابنه الذي قتل في المعركة هو و23 ألف من جنوده وانتصر المسلمين ومات الفونسو حزنا على وحيده بعدها بعشرين يوما.
وسرعان ما دار الزمان وسقطت دولة المرابطين في المغرب على يد دولة الموحدين والتي قامت بدورها بالسيطرة على الأندلس لتصبح الأندلس تابعة لدولة الموحدين، وكانت الأندلس تمتلك القدرة والمهارة والقوة العسكرية ولكن كان ينقصها القيادة الحازمة التي تقبض على الجيش قبضة محكمة، حتى وصل أبو يوسف يعقوب المنصور إلى الحكم والذي كان رجل حازما موهوبا في شؤون الإدارة والحكم فأصبحت جيوش الموحدين في أيامه قوة ضاربة.
ودارت بينة وبين مملكة قشتالة وليون ونافار معركة من أشد معارك الأندلس وهي معركة الأرك الخالدة، حيث أنه في التاسع من شهر شعبان سنة 591 بالقرب من حصن الأرك على الحدود ما بين الأندلس وقشتالة دار رحى الحرب التي أسفرت عن نصر ساحق للمسلمين وأخذ من في حصن الأرك من زعماء النصارى 24 ألف أسير.
ثم في عام 595 لقي المنصور ربه عن عمر لم يتجاوز الأربعين عاما، فخلفه ابنه الناصر الذي كان شابا طموحا قويا ولكنه لم يكن بالذكاء والكفاءة مثل والده، وبعد موت المنصور أرسل البابا رسالة إلى مملكة نافار يحضها على نبذ المعاهدة التي وقعتها مع المسلمين ونبذ الخلاف مع دولة قشتالة والتوحد في قتال المسلمين.
وبهذا توحدت الدول الأوروبية وبلغ عدد جيشها حوالي 200 ألف مقاتل يتقدمهم الملوك والرهبان لقتال المسلمين، ودخل الناصر الأندلس بجيشه وكان لقائه بالجيش الأوروبي في موقعة العقاب سنة 609 التي كانت بالفعل عقابا على المسلمين.
حيث نتيجة لسوء التخطيط واتخاذ القرارات السيئة كانت الهزيمة النكراء لأكبر جيش إسلامي عرفته الأندلس، ثم توالت الهزائم حيث دخل جيش النصارى إلى مدينتي بياسة وأبذة وقتلوا أهلها وسبوا من النساء والصبيان ما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة.
مات الناصر سنة 610 وتولى من بعدة ابنه المستنصر بالله وعمره 16 سنة ومن جديد وكما حدث في عهد ملوك الطوائف ضاعت الأمانة ووسد الأمر إلى غير أهله، وتوالت الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة من العلو والتمكين لدولة الموحدين.
وكما يقول المؤرخون انه بعد موقعة العقاب لم يرى في الأندلس شابا قادرا على القتال، حيث أنه في سنة 626 سقطت جزيرة ميورقة وبياسة من جزر البليار وفي العام التالي استقل الحفصيون بتونس عن دولة الموحدين وفى سنة 633 كانت المأساة الكبرى بسقوط قرطبة حاضرة الإسلام في الأندلس.
وفي سنة 635 استقل بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود في السنة نفسها، وفى سنة 636 وبعد حصار دام خمس سنوات سقطت بلنسية على يد مملكة أراجون بمساعدة فرنسا.
وفي سنة 641 سقطت مدينة دانية وفى سنة 643 سقطت مدينة جيان، وفى سنة نفسها وقع ابن الأحمر في غرناطة معاهدة الخزي مع ملك قشتالة الذي تحرك بناء عليها الجيش الغرناطي مع الجيش القشتالي لحصار مدينة اشبيلية، وبعد 17 شهر سقطت مدينة اشبيلية سنة 646 ولم يبقى للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة التى يحكمها بنو الأحمر.
أبو يوسف يعقوب المنصور المرينى
لم يؤسس ابن الأحمر مدينة غرناطة على التقوى بل أسسها على وعد من صليبي لا عهد له ولا أمان، ولقد فاتح النصارى بنو الأحمر وبدؤوه بالعدوان وغزوا أراضيه سنة 660، وفى سنة 761 مات محمد ابن الأحمر الأول وتولى من بعد ابنه محمد الفقيه الذي استعان بالمنصور المريني ملك دولة بني مرين في المغرب؛ التي قامت على أنقاض دولة الموحدين.
فعبر إلى الأندلس سنة 674 وهناك بالقرب من قرطبة كانت موقعة الدينونية بين المنصور المريني وغرناطة من جهة ضد قشتالة من الجهة الأخرى، وبهذه القيادة الربانية وهذا العدد الذي لم يتجاوز 10 ألاف مقاتل كان النصر للمسلمين الذي استعاد فيه المسلمين ذكريات الأمجاد في الأندلس.
وفى سنة 677 يحاصر المنصور المريني اشبيلية حصار شديد ثم يصالحهم على الجزية، ثم تنازل حاكم مالقة عن بلاده إلى المنصور المريني نكاية في خاله حاكم غرناطة فخشي محمد الفقيه من أن يسيطر المنصور المريني على غرناطة فتآمر علية وخانه واتفق مع الفونسو العاشر على قتال المنصور المريني وطرده من الأندلس، وبالفعل يأتي ملك قشتالة بجيوشه وأساطيله لمحاصرة طريف.
ولم يستطع المنصور العبور لنجدتهم؛ بسبب اضطرابات في بلاد المغرب، فاشتد الحصار على المسلمين هناك قتلوا صغارهم خشية عليهم من معرة الكفر، واستطاع ابن الأحمر -في ظل هذه الكوارث- السيطرة على مالقة.
ولكنه عندما رأى ما وصل إليه حال المسلمين في طريف، واستعداد النصارى لأخذها، وليس فقط طرد المرينيين منها؛ ندم على ما فعل، وسحب أسطوله وجعله مدد لجيش المسلمين، ونشبت معركه عظيمة بين الأسطول الإسلامي والنصراني كان النصر فيها للمسلمين واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا طريف؛ ففر منها النصارى.
فعاد النصارى وتحالفوا مع بنى أشقيلولة في مالقة ضد ابن الأحمر ولكنه استطاع أن يردهم عن غرناطة، وإذا بابن الأحمر يستقبل رسالة من أبي يعقوب المنصور المريني يجدد فيها الرغبة في الصلح ويحذره من خطورة انفصال هذا التحالف على المسلمين في الأندلس.
والله نعم الرجل كان أبو يعقوب رغم خيانة هذا الغادر إلا أنه لا يفكر في الانتقام بل يفكر كيف يحافظ على المسلمين في الأندلس ، بعد هذه الواقعة بعام واحد مات المنصور المريني عليه رحمة الله.
فارس غرناطة موسى بن أبى غسان
ثم يعود ابن الأحمر ثانية؛ ليتحالف مع مملكة قشتالة ضد المرينين والمسلمين في طريف على شريطة أن بعد سقوط طريف يتركها النصارى له مقابل ستون حصنا يتركها ابن الأحمر لهم وبالفعل تسقط طريف ولكن بعد أن استولى عليها النصارى لم يعيدوها له، وبهذا السقوط لمدينة طريف يكون ابن الأحمر قطع بيده أخر خطوط الاتصال بينه وبين الحائل الوحيد لسقوطه وهم المسلمين في بلاد المغرب.
وفى سنة 709 يسقط جبل طارق في يد النصارى وتترك غرناطة لمصيرها المحتوم نتيجة الخيانة والغدر والمولاة للنصارى وحب السلطة والمنصب .
ظلت غرناطة تترنح ما بين الصراعات الداخلية تارة والخيانة وموالاة النصارى تارة وبين الذل والخضوع ودفع الجزية تارة أخرى وظل الوضع هكذا من سيء إلى أسوء، وفى عام 1489 م – 895 هـ، وحسبما تشير بعض الوثائق أنه قد تم صلح جديد بين حاكم غرناطة حينها (أبو عبد الله الصغير) وبين ملكي أسبانيا الموحدة (مملكة قشتالة ومملكة أراجون) الملك فرناندو وزوجته الملكة إليزابيث.
وعلى الرغم من أننا لا نعرف يقينا بنود هذا الصلح، ولكن الرواية الإسبانية تؤكد أن أبي عبد الله الصغير قد تعهد بتسليم غرناطة لهم، وعلى كل حال ففي بداية عام 1490 م – صفر 895 هـ أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبي عبد الله رسولًا؛ ليخاطبه في تسليم قصر الحمراء مقر الملك والحكم في غرناطة، وما كان من أبي عبد الله الصغير إلا الرفض.
وعندما علم ملك قشتالة بامتناع الأمير عبد الله عن التسليم حتى ذهب إلى غرناطة وحاصرها وبرز له المسلمون واستطاعوا رده عن المدينة، وبدأت غرناطة في غزو المدن المحيطة بها ومساعدات الثوار المسلمين فيها؛ فعادت جيوش فرناندو لمحاصرة المدينة مرة أخرى ولكن رده الله دون أن ينال منها شيء.
وعادت غرناطة إلى غزواتها مرة أخرى فعاد الطاغية فرناندو للمرة الثالثة وكله تصميم هذه المرة ألا يعود قبل دخول غرناطة، ولكن غرناطة لم تستسلم إلى هذا الحصار بل قاومت أشد المقاومة بل برزت حركة مقاومة شديدة على رأسها رجل يسمى موسى بن أبى غسان.
وطيلة سبعة شهور ضرب لنا هذا القائد ورجاله أروع الأمثلة في الصمود والاستماتة في الدفاع عن غرناطة سبعة أشهر دار فيها القتال في كل الاتجاهات واستشهد من المسلمين الكثير وقتل من النصارى أضعافهم، وما زالت الحرب متصلة حتى فنيت خيل المسلمين ولم يبقى منها غير القليل.
واستبسل موسى ابن أبى غسان وجنده والمسلمين داخل المدينة استبسال الأبطال دفاعا عن المدينة قائلا لأصحابه “لكي يعلم ملك النصارى أن العربي قد ولد للجواد والرمح” ولكن البسالة وحدها لا تكفي في هذا الموقف فالمدينة محاصرة وخطوط الإمدادات مقطوعة.
وتساقطت الثلوج فقطعت طريق البشرة التي كانت تأتي عن طريقة الأطعمة ، فقلت الأطعمة في المدينة وانتشر الجوع وكثر السؤال، ولم يكن أمام الغرناطيين إلا التسليم، فذهب جمع منهم إلى أبو عبد الله الصغير يطالبوه بأن يفاوض ملك قشتالة على التسليم بالأمان، وكان هذا ما يريده أبو عبد الله الصغير هو ووزرائه فسارع إلى ملك قشتالة يفاوضه على التسليم مقابل الأمان.
وفى رد فعل طبيعي للقائد الغيور موسى بن أبى غسان وقف في قصر الحمراء أمام أبي عبد الله الصغير ووزرائه وكبار القوم صادحًا بالحق، قائلًا لهم:
لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا بأن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه
وخرج موسى من المجلس وذهب إلى بيته ولبس سلاحه وامتطى جواده وانطلق يقابل سرية من سرايا النصارى، حوالي خمسة عشرة رجلا فقاتلهم قتال من يريد الشهادة لا يريد سواها، فقتل معظمهم قبل أن يقتل شهيدًا في سبيل الله، نعم الرجل كان أبى موسى الذي كان من أبرز كلماته:
اتركوا العويل للنساء والأطفال؛ فنحن لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء.
وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان الكاثوليكيان قصر الحمراء بغرناطة في خيلاء ومعهم الرهبان وكان أول عمل لهم هو تعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى في إشارة إلى أن غرناطة أصبحت تابعة إلى المملكة الكاثوليكية وانتهاء حكم المسلمين في الأندلس.
ويخرج أبو عبد الله الصغير من القصر الملكي ذليلًا منكسرًا حتى إذا وصل إلى ربوة عالية تطل على قصر الحمراء تطلع إليه بأسى وحزن شديد لم يستطع معه أن يمسك دموعه، فانهالت حتى بللت لحيته، حتى قالت له أمة عائشة الحرة كلماتها التي ما زالت خالدة:
أجل، فلتبكي كالنساء ملكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وقد تم التسليم في 2 ربيع الأول سنة 897 هـ الموافق 2 يناير 1492م.
سقطت دولة الأندلس بحضاراتها وأمجادها وتاريخها، ولم يفي النصارى بوعدهم -بالطبع-، بل أخلف البابا نفسه وعده الذي وقع عليه، وبدأ تهجير المسلمين من أرضهم وقتلهم وتشريدهم وإجبارهم على اعتناق النصرانية، وبعد اعتناقها يلقبونهم بالمورسكي كمواطنين درجة ثانية لا حقوق لهم.
حولت مساجد الأندلس إلى كنائس، نصبت محاكم التفتيش فمن يقبض عليه مسلمًا عقوبته القتل والتعذيب حتى الجنون، من يتوضأ ويتطهر فهو مسلم وجب قتله، من لا يشرب الخمر فهو مسلم، من لبس ثيابًا نظيفة يوم الجمعة فهو مسلم، من توجه ناحية الشرق في صلاته فهو مسلم وجب قتله.
بلغ ما وقع على المسلمين من قتل واضطهاد بعد سقوط الأندلس ما لم تعرفه البشرية في تاريخها، ولم تتوقف محاكم التفتيش عن أفعالها الإجرامية هذه حتى دخلت جيوش نابليون بونابرت أسبانيا، فهالهم ما وجدوا بل أنهم صدموا من شدة ما رأوا من أصناف التعذيب.
وما زال يوم الثاني من يناير هو يوم العيد لدى الأسبان؛ فيقيمون الاحتفالات ويرفعون الرايات ويجوبون الساحات حاملين راية المسلمين التي ظفروا بها بعد الهزيمة في موقعة العقاب في مسرحية تمثيلية حقيرة يستهزئون فيها بعبد الله الصغير.
ولست أجد ما أختم به مقالي هذا خير من عدة أبيات من قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس:
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق