شرح قصيدة حسّان بن ثابت - الموسوعة العربية للمعرفة

مقالات تشمل كافة مجالات الحياة لنشر الوعي و المعرفة

اخر الأخبار

الثلاثاء، 21 يوليو 2020

شرح قصيدة حسّان بن ثابت

             قصيدة حسّان بن ثابت 

                          



                  نسب حسان بن ثابت

حسان بن ثابت .. شاعر الرسول .. شاعر النبي هو أبو الوليد حسان بن ثابت من قبيلة الخزرج، التي هاجرت من اليمن إلى الحجاز، وأقامت في المدينة مع الأوس ..ولد في المدينة قبل مولد الرسول بنحو ثماني سنين ، فعاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة أخرى، وشب في بيت وجاهة وشرف، منصرفًا إلى اللهو والغزل، فأبوه ثابت بن المنذر بن حرام الخزرجي، من سادة قومه وأشرافهم، وأمه الفريعة خزرجية مثل أبيه.
وحسان بن ثابت ليس خزرجيًّا فحسب؛ بل هو أيضًا من بني النجار أخوال رسول الله فله به صلة وقرابة.


                             مناسبة القصيدة :

                                       1- المفاخر الجاهلية والردّ عليها.
                                       2- بيان أَبْعاد الدين الجديد وآثاره.
                                       3- إرشاد بني تميم إلى الإسلام وإخلاص الّنصح لهم.



قال حسان بن ثابت:
إن الذَّوائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتهمْ
يَرْضى بها كُلُّ مَنْ كانَتْ سريرتُهُ
قَوْمٌ إذا حاربوا ضَرّوا عَدُوَّهمُ
سَجِيَّةٌ تلك مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ
لا يرقَعُ النَّاسُ ما أَوْهَتْ أكفُّهُمُ
إنْ سابَقوا النَّاسَ يوماً فازَ سَبْقُهُمُ
إنْ كان في النَّاسِ سبَّاقون بَعْدَهمُ
ولا يَضَنّون عن مَوْلى بِفَضْلِهِمُ
لا يَجهَلون وإنْ حاولتَ جَهْلَهمُ
أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْي عِفَّتُهم
كَمْ مِنْ صديقٍ لَهُمْ نالوا كرامَتَهُ
أَعْطَوْا نَبِيّ الهُدَى والبِرِّ طاعتَهُمْ
إنْ قالَ سيروا أجَدّوا السَّيْرَ جُهدَهُمُ
ما زالَ سَيْرُهمُ حتّى استقادَ لهم
خُذْ مِنْهُمُ ما أتى عَفْواً إذا غَضِبوا
فإنّ في حَرْبِهِمْ فاتْرُكْ عداوتَهُمْ
نَسْمو إذا الحربُ نالَتْنا مَخالبُها
لا فَخْرَ إِنْ هُمْ أَصابوا من عدوّهمُ
كأنّهمْ في الوغَى والموتُ مُكْتَنِعٌ
إذا نَصَبْنا لِقَوْمٍ لا نَدِبٌّ لهم
أكرمْ بقومٍ رسولُ الله قائِدُهُمْ
أهدى لهم مِدَحي قلبٌ يؤازِرُهُ
فإنّهمْ أفضلُ الأحياءِ كلِّهِمُ
قَدْ بَيَّنوا سُنَّةً للنّاسِ تُتَّبَعُ
تَقْوى الإلهِ وبالأَمْرِ الذي شَرَعوا
أو حاولوا الَّنفْعَ في أشياعِهِمْ نَفَعوا
إنّ الخلائِقَ فاعلمْ شرُّها البِدَعُ
عِنْدَ الدِّفاعِ ولا يُوهونَ ما رَقَعُوا
أو وازنوا أَهْلَ مجْدٍ بالنَّدى مَتَعوا
فكُلُّ سَبْقٍ لأدْنَى سَبْقِهم تَبَعُ
ولا يُصِيبُهمُ في مَطْمَعِ طَبَعُ
في فَضْلِ أحلامِهِمْ عن ذاكَ مُتَّسَعُ
لا يَطْبَعون ولا يُرْديهِمُ الطَّمَعُ
ومن عَدُوٍّ عليهم جاهدٍ جَدَعوا
فما وَنَى نَصْرُهمُ عنه وما نَزَعوا
أو قالَ عوجوا علينا ساعةً رَبَعوا
أهلُ الصَّليبِ ومَنْ كانت له البيَعُ
ولا يَكُنْ هَمُّكَ الأمرَ الذي مَنَعوا
شرَّاً يُخاضُ عليه الصَّابُ والسَّلَعُ
إذا الزَّعانِفُ مِنْ أظفارها خَشَعوا
وإنْ أُصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ
أسْدٌ بِبِيْشَةَ في أرْساغها فَدَعُ
كما يَدِبُّ إلى الوَحْشِيّةِ الذُّرَعُ
إذا تَفَرّقَتِ الأهواءُ والشِّيَعُ
فيما يُحِبُّ لِسانٌ حائِكٌ صَنَعُ
إنْ جَدَّ بالنّاس جِدُّ القَوْلِ أو شَمَعوا
                                                      شرح بعض  المفردات :
الذّوائب: الأعالي، والمراد هنا السّادة. وفِهْر أصل قريش، ولعلّه يريد بأخوة فِهْر الأنصار، وبالذّوائب من فهر المهاجرين. الأشياع: جمع شيعة، وهي الأنصار والأتباع. السجيّة: الغريزة، وما جُبل عليه الإنسان. والخلائق: جمع خليقة، وهي الطبيعة. أَعفّة: جمع عفيف. لا يطبعون: لا يفعلون ما يدنّسهم.
استقاد لهم: أعطوْهم مقادتهم، انقادوا لهم. الصّاب والسّلع: ضربان من الشجر مُرّان. الزعانف من الناس: سفلتهم، ومَنْ لا خير فيهم. الموت مكتنع: دان قريب. بيشة: موضع تُنْسب إليه الأسود. فِدَع: عِوَج ومَيْل في المفاصل. الذّرع: كلّ ما استتر به من بعير أو غيره. شمعوا: هزلوا، وأصل الشّمع الطّر
                                                 







                                      دراسة القصيدة :
بدأ حسان بن ثابت قصيدته بحديث مرّكز ومباشَر عن كُليّة من كُليّات العقيدة الإسلامية، وهي: أنّ الإسلام دين الفطرة، وكان طَرْحُهُ لذلك مرتبطاً بغرضين واضحَيْن:
أولهما: مَدْحُ الجماعة المسلمة من المهاجرين والأنصار (فهر وأخوتهم) بنقاء الفطرة.
ثانيهما: تنبيه بني تميم إلى خصائص الدّعوة الإسلامّية، وغمز جانبهم بصفات المستجيب لها.
على الرغم من أنّ مطلع القصيدة مُحْكَمُ الإنباء عن الرؤية النفسيّة والفكريّة بمداراتها أو أبعادها الثّلاثة السّابقة، إلاّ أنّه لم يكن مُغنياً السّامعَ عن التطلّع إلى تتّبع هذا الخبر القائم على عملية البيان في حركة الدّعوة، الذي طرحه حسّان في قوله "قد بَيّنوا سُنّة للناس تُتّبع".
لكنّ حسان بن ثابت أراد أن يدفع أولاً مظنّة روّجَتْ لها قريش بين القبائل، وهي أنّ الجماعة المسلمة أشتات مجتمعة من الضّعفاء والأراذل، الذين وجدوا ضالّتهم في الدّعوة الإسلامية: قالوا أنؤمن لك واتّبعك الأرذلو
لذلك ظهرتْ قوّة هذه الجماعة وتمكّنها المتوازن في إيقاع الضّرر في أعدائهم وإحداث النّفع بين أصدقائهم، فضلاً عن دقّة وإتقان في إصابة الغاية، التي يقصدون إليها خاصّة وقت الحرب، فأفعالهم متكاملة في مختلِفِ الأحوال حرباً وسلماً، هدماً وبناء، وهي ذات أصالة وعراقة.
قَوْمٌ إذا حاربوا ضرّوا عدّوهُمُ
سجيّةٌ تلك فيهم غَيْرُ مُحْدَثَةٍ
لا يرقعُ الناسُ ما أَوْهَتْ أكفُّهُمُ
أو حاولوا الّنفعَ في أشياعهم نَفَعوا
إنّ الخلائقَ فَاعْلَمْ شرُّها البِدَعُ
عند الدّفاع ولا يُوهونَ ما رَقَعوا
وإسناد فعل المصدرين (الضّر والنّفع) أو الشّجاعة والسّماحة إلى الجماعة المسلمة (ضَرّوا عدوّهم، أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا) مصوغ مسوق في الزّمن الماضي، فضلاً عن الوصف المؤكدّ المقرّر لذلك (غير محدثة). فالإخبار بما كان، لا بما هو كائن، أو يكون، وفي ذلك استرجاع لبعض الوقائع ذات الجذور التّاريخية الماثلة في أذهان قبائل العرب ومنها تميم
ولعلّ في هذا الإسناد والتّعبير بصيغة الزّمن الماضي، مَنْجاةً لحّسان بن ثابت من أيّ مساس بمعتقده الإسلامي، أو يقينه بأنّ الله هو النّافع الضّار ،ولا ينازع الإحساس بالماضي في هذه الصّفة (الشجاعة حرباً كانت أو سماحة وكرماً) الانفعال بحاضر الجماعة المسلمة ومستقبلها، الذي جسّد بدلالتين في التّعبير:
أولهما: المعيار الإسلاميّ في تقويم الأخلاق لفظاً ومعنى.
وثانيهما: صيغة استمرارية الزّمن الحاضر في لا يرقع- لا يوهون.
فقد استعان حسّان بالمعيار الإسلاميّ في تقويم الأخلاق والسّجايا، قديمها والمحدث منها فجعل الغريزة والفطرة مسوّغاً للخير في قبول السّجايا والطّبائع (سجية غير محدثة) والمبتدع الحادث سبيلاً للشرّ في رفض الأخلاق.
ويتنامى الإحساسُ بالجماعة المسلمة في حاضرها، ويتعاظم الانفعالُ بها، لتميّزها بالفضل والتفرّد بين النّاس لا في الماضي فحسب، بل يتجاوز الحاضر المشاهد المحسوس إلى المستقبل المغيّب:
إِنْ سابَقُوا النّاسَ يوماً فاز سبقُهُم
إِنْ كان في النّاس سَبّاقونَ بعدَهُمُ
أو وازنوا أهلَ مَجْدٍ بالنّدى مَتَعوا
فَكُلُّ سَبْقٍ لأدنى سَبْقِهم تَبَعُ
ويضارع الإحساس المتنامي في هذا الجانب تصعيد في المعنى ونماء في الإيقاع متدرّج مُطْرِب الجَرْس.
فالمسابقة الجارية وإن اختلفتْ فئاتُها فقد تنوّعت اتجاهاتُها، إذ أنّ مسابقة العامّة (سابقوا النّاس) فيها فوز هَيّن مقدور عليه في كل حين (يوماً)، ومسابقة الخاصّة (أهل المجد) بالنّدى فيها تميّز أداء الجماعة وإمتاعه، أما مسابقة خاصة الخاصة (السبّاقون) ففيها التبعية المؤكّدة لفضل الجماعة المسلمة باقتداء هذه الفئة بها.
وَحَملَ هذه المعاني سياقٌ إيقاعيٌّ متماثلُ الصّوت في تكرير مادّة سبق (سباقون، سبق، سبقهم) بأبنية مختلفة، فيه إطراب وتلذّذ بذكر المكرّر، وفيه شمول وانتظام بين صدر البيت وعَجُزِهِ.
إنّ تصعيد المعنى بما فيه من طاقات شعوريّة ودلالات تعبيرّية، يحمل تطلّعاً معرفياً، خاصّة أن الانتقال من الماضي إلى المستقبل في شأن الجماعة المسلمة غُيّب الحاضر فيه، فكان تفصيل ذلك وتحليله من خلال مواقفَ سلوكيّةٍ تنتظم فئتي الجماعة المسلمة في الغنى والفقر تعاملا مع نماذجَ بشريّةٍ منوّعةٍ، فيها المَوْلى والجاهل والعدوّ، في قيم اجتماعية محدّدة من الكرم والحلم والشّجاعة. وقد جاء ذلك في إطار من الإغراء المحبّب، للدّخول في الإسلام، والانتظام في الجماعة المسلمة:
ولا يَضَنّون عن مولى بفضلِهِمُ
لا يجهلون وإِنْ حاولْتَ جهلَهُمُ
أعفّةٌ ذُكرتْ في الوَحْيّ عفتُهُمْ
كَمْ من صديقٍ لهم نالوا كرامتَهُ
ولا يُصيبُهُمُ في مَطْمَعٍ طَبَعُ
في فَضْل أحلامِهِمْ عن ذاك مُتّسعُ
لا يَطْبَعون ولا يُرديهُمُ الطّمَعُ
ومِنْ عَدوّ عليهم جاهدٍ جَدَعوا
فالأغنياء والفقراء متوحّدون بخلُق رفيع، في مجانبة الدّنس والخسّة والطّمع في المعاملة والكسب، فأهل الفضل (لا يصيبهم في مطمع طبع) كالفقراء تماماً (لا يطبعون ولا يرديهم الطمع) ، على الرغم مما في المال من إغراء للغنيّ في الزّيادة، ... وجاذبية للفقير في سدّ الحاجة.
إنّ العداوة متباينة في شدّتها ونسبتها، مختلفة في أسلوب علاجها، فاتّساع الصّدر للجاهل –وهو عدو- يقابله جدع للعدو الجاهد. ولا تبتعد المفارقة عن الممازجة في تعميق الاحساس بالجماعة وترسيخ الفخر بها والاعتزاز بفضائلها وقدراتها، خاصّة أنّ في هذا الفخر نزوعاً قاصداً بالمفارقة وإجهاض الفضائل التي جاءت دالّة على منزلة تميم ومكانتها في قول شاعرها:
وكَمْ قَسَرْنا من الأحياءِ كلّهِمُ
ونحن نُطعمُ عند القَحْطِ مطعمَنا
ثُمَّ ترى النّاسَ تأتينا سَراتُهُمُ
فننحر الكُومَ عَبْطا في أَرومتنا
عنْدَ النّهاب وفَضْلُ العزِّ يُتّبعُ
من الشّواء إذا لم يُؤْنَسِ القَزَعُ
مِنْ كُلّ أرضٍ هُوِيّاً ثم تصطنعُ
للنّازلين إذا ما أنزلوا شَبِعوا
فقسريّة النّهب من الغنائم في تميم، منقوضة بترفّع عن الدّنس والخسّة وعفاف عن المطامع، والمفاخرة بسعي السّراة والسّادة من القبائل للفضل، يغايره حدب الغنيّ على المولى من غير سعي دونما نظر إلى مكانته ومنزلته، والكرم الحسي من إطعام الشّواء ونحر النّوق السّمان، وإشباع النازلين وقت اشتداد الحاجة من القحط مفضول بكرم خُلُقي فيه الفضل والعفّة وعلوّ الهمّة من الحلم والأناة
وتأتلف المفارقة والممازجة في نسق تعبيريّ متماثل الأداء والغاية، فالفعل المضارع المنفي (لا يَضَنّون، لا يصيبهم، لا يجهلون، لا يطبعون، لا يرديهم) بما فيه من خبرية البناء واستمرارية الزمن، فإنّه يدلّل على تحقق الخبر وإِثباته بالحضور المشاهد، والواقع المجرّب.
وللإشارة بالوحي دلالة خبرية أخرى موحية بتأكيد الحقيقة وصدقها:
أعفّةٌ ذُكرَتْ في الوَحْي عفّتُهُمْ
لا يطبعون ولا يرديهمُ الطّمعُ
وخبر السّماء عن أهل العفّة مجهول لا يعرفه بنو تميم تعبيراً قرآنياً يتلى، لكنّهم يدركونه واقعاً وفعلاً مطابقاً للخبر، فهو مشهود متحقّق بمشاركة أهل العفّة في كلّ سريّة بعثها رسول الله للجهاد، ويأتي الدّليل المؤكّد لذلك في السّياق بأسلوبين: التكثير في "كم من صديق ... ومن عدو" والاستمرارية في صيغة "جاهد" المبنية على الفاعلية، التي تحمل إيحاءً دالاً على "قريش"، التي عُرفتْ بعداوتها اللدودة للإسلام والمسلمين.
كَمْ مِنْ صديقٍ لَهُمْ نالوا كرامَتَهُ
وَمِنْ عَدُوّ عليهِمْ جاهدٍ جَدَعوا
وإذا كانت المواقف السّلوكية السّابقة يرفّ فيها خُلُقٌ إسلاميٌّ يحمل تجسيداً لطبيعة العلاقة بين الجماعة المسلمة والأدنى منزلة، والندّ مرتبة، فإنّ طاعتها لرسول الله صريحة الدلالة على الالتزام بأمر الأعلى والإخلاص له ما دام حقّاً وهدى وبرّاً.
أَعْطَوْا نَبيَّ الهُدى والبرّ طاعَتهم
إنْ قال سيروا أجدّوا السَيْرَ جُهْدَهُمُ
ما زال سَيْرُهُمُ حتّى استقاد لَهُمْ
فما ونى نَصْرُهُم عنه وما نزعوا
أو قال عوجوا علينا ساعةً رَبَعوا
أهلُ الصّليب ومَنْ كانَتْ له البيَعُ
ولذلك كانت الاستجابة للنبوّة بالطّاعة عن رغبة ورضى (أعطَوْا) لأنّ فيها الهداية والرّشاد ولوازم البرّ من صدق، وإحسان، وخَيْر، وصِلات، وتراحم، وعبادات موصلة إلى الجنة.
وغدا لهذه الطّاعة ما يميّزها ويخصّصها من الديمومة والحركة والفاعلية في الأثر، فقد تفانت الجماعة المسلمة في نصرة النبيّ، ولم تَفْتُرْ همّتُها في ذلك حرباً أو سلماً، إذ أخذتْ نَفْسَها بالحرص على بلوغ الغاية القصوى في الأمر الذي يصدر إليها، مما ترك صدى في انقياد أهل الكتاب من النّصارى واليهود إلى الإسلام.
فالتسليم بالطّاعة ترتّب عليه، بل أعقبه مباشرة العزم على النّصرة من غير رَيْث أو تفكير (أعطَوْا ... فما ونى نصرُهُمْ عنه وما نَزَعوا) ثم كان التكليف بالجهاد اختباراً للتّسليم والبذل والعزم، فإذا بالطلب يأتي بجوابه، والاستجابة تابعة للأمر (إن قال سيروا أجّدوا السّير ... أو قال عوجوا ... ربعوا).
ولذلك كانت سيادة الإسلام نتاجاً لاستمرارية الجهد الذي يمثله العامل (ما زال ومعموله (مستمراً) (ما زال سيرهم حتّى استقاد لهم) على أنّ في مقابلة السّيْر (الجهاد) المطلق في زمنه بالالمام والوقوف المقيّد بساعة في وقته، إنباء بنسبة الحركة إلى الوقوف، وعظم معاناة القتال إلى قصر التمتع بالراحة، أما القَوْدُ في (استقاد) فإشارة فصيحة إلى قيام هذه الحركة في دعوتها على أساس الاقناع لمن يملك الحّجة (اليهود والنصارى) لا على الإرغام والقهر والسَّوْق.
والانفعال بهذا الحقّ جاء قوياً عنيفاّ سادت فيه المباشرة والصّراحة في الأمر والنّهي (خذ، لا يكن، اترك) قصداً إلى النّصح والتّوجيه، والتّرغيب والتّرهيب.
خُذْ مِنْهُمُ ما أتى عَفْواً إذا غَضِبوا
فإنّ في حَرْبِهِمْ فاترُكْ عداوتَهم
ولا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الذي مَنَعوا
شرّاً يُخاضُ عليه الصّابُ والسَّلَعُ
والوعظ المباشر بالأمر والنّهي أو غير المباشر بالصورة السّابقة يحمل في هذا المجال وظيفة فنيّة في ربط المعاني وإحكام البناء الفنّي، إذ جاء الأمر والنّهي انفعالاً بما تقدّم من إخبار بالتّلاحم في حركة الدعوة، وجاءت الصّورة التّمثيلية مهاداً للوعظ بالصّورة العسكرية المتكاملة التالية:
نَسْمُو إذا الحربُ نالَتْنا مخالبُها
لا فَخْرَ إِنْ هُمْ أًصابوا من عَدُوّهمُ
كأنّهم في الوغى والموتُ مُكْتَنِعٌ
إذا نصبْنا لقوم لا نَدبُّ لهم
إذا الزّعانفُ من أظفارها خَشَعُوا
وإنْ أُصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ
أُسْدٌ ببيشَةَ في أرساغِها فَدَعُ
كما يَدِبُّ إلى الوَحْشِيّة الذَّرَعُ
إذ تعرض هذه الصورةُ للأبعاد القتاليّة المتعدّدة للجماعة المسلمة، الحرب الاضطرارية، والحرب الاختيارية، وفي صخب الحرب وجَلَبتها، وما بعد هدأتها.
والثّبات والتوحّد هو المنهج المطّرد، الذي يحتوي هذه الأبعادَ في تعددها، فلا فَرْقَ بين صورتهم في السموّ والظّهور، إذا فُرضَتِ الحربُ عليهم (نسمو إذا الحرب نالَتْنا مخالبُها) أو إذا فرضوها على أعدائهم (إذا نصبنا لقوم لا ندبّ لهم)، ولا تباين في شدّتهم وتماسكهم في ساحة الحرب أو ما بعدها، إذ لا تزعزعهم الهزيمةُ، ولا يطيش بهم النّصرُ.
فمقصود هذه الصّورة بوسائلها البيانية المنّوعة من تشبيه وتمثيل واستعارة –الوعظ بالتحذير والترهيب، ليشغل بها ذهن السّامع في مدى الخطر، وليستحضر هذه الصّورة كّلما غرّته القوة، أو أوقع الوَهْمُ في نفسه خاطراً من العدوان.
وفي الأداء إتقان ومبلغ من الإبداع في الاستعارة والتّمثيل، أما الاستعارة البديعة في السّمو إذا الحرب، ونالتنا مخالبها، والزّعانف خشعوا، وأظفارها فقد قام عليها بناء البيت:
نسمو إذا الحربُ نالَتْنا مخالبُها
إذا الزّعانفُ من أظفارها خَشَعُوا
وأما تمثيل الحركة والهيئة ففي قوله:
كأنّهُمْ في الوغى والموتُ مُكْتَنِعٌ
إذا نَصَبْنا لقوم لا نَدِبُّ لهُمْ
أُسْدٌ ببيشَةَ في أرساغها فَدَعُ
كما يَدِبُّ إلى الوَحْشيّة الذُّرَعُ
على أنّ المدح القائم على أسلوبي التّعجب (أكرم بقوم) والتّفضيل (أفضل الأحياء)، ما يعزّز هذه المفارقة ويُقَوّي من فنّ المقابلة، ويجسّد الانفعال.
خاتمة :
ومن ثَمّ يمكن أن نقول: إنّ الرأي الذي يذهب إلى أن هذه القصيدة "تضم نفس المعاني الجاهلية. ونفس القيم التي كان العرب متعارفين عليها في المديح، وقد صاغ حسان هذه المعاني في صور وأشكال مختلفة مما يدلّ على تمكّنها من نفسه وتمرّسه بها وتفاعله معها، أمّا الأفكار الإسلامية فقليلة، ولم يذكرها الشّاعر إلاّ على شكل سرد أو عرض خاطف ليس في صورها ما يأخذ الألباب" رأي فيه كثير نظر لأنّه إنما يلتفت إلى ظاهر المعاني دون مقتضاها، فضلاً عن أنه لم يعنِ نفسَهْ البحث عنها في عمق الدلالة ولازم الاشارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق