خصائص الشعر و الأدب فى عصر الدولة الايوبية - الموسوعة العربية للمعرفة

مقالات تشمل كافة مجالات الحياة لنشر الوعي و المعرفة

اخر الأخبار

الخميس، 29 نوفمبر 2018

خصائص الشعر و الأدب فى عصر الدولة الايوبية






إن الشاعر - شأن غيره - هو ابن البيئة التى يعيش فيها، ومن شأن هذه البيئة أن تؤثر فيه وتطبعه بطابعها، و توجه جهوده ومذاهبه، وتصقل موهبته لأن الموهبة لا يمكن لها وحدها أن تبدع أدباً له قيمته، ومن ثم يكون الإبداع نتاج تفاعل بين الفرد والبيئة " فلا العصر هو كل شىء، ولا الموهبة الفردية هى كل شىء، والأمر الذى لا مراء فيه هو أن العصر لايخلق الموهبة إذا هى لم توجد فى صاحبها، وإن بعض العصور من الجهة الأخرى أصلح لإظهارالمواهب والعبقريات، ثم إن العصر إذا لم يخلق الموهبة خلقاً، فهو بلا ريب يوجهها ويهيىء لها أسباب تمامها واستوائها، بحيث يسهل علينا أن نفهم كيف أن عبقرية من العبقريات تهتدى على وجهتها فى زمن، ولا تهتدى إليها فى زمن آخر، وكيف أن رجلاً يكون صانعاً فى هذا العصر أو ذاك، وهو لو ولد فى غيره لكان من الأدباء أو السواس" (1) .
والمقصود بالعصر هو جميع المؤثرات التى تتجمع فى تلك البيئة التى يعيشها الشاعر أو الفنان، والبيئة بصفة عامة تعنى " وطن المرء الذى يولد فيه، وينتسب إليه ويدرج بين ربوعه، ويعيش فى جوه وفوق أرضه، وتحت سمائه، وبين أهله، وتتفتح عينه على مرائيه، ويتنبه خاطره على أحداثه، وينطلق لسانه فيتكلم بلغته، ويرى فى قومه عادات فيعتادها من صغره، وتقاليد فيتبعها منذ نعومة أظفاره، وتعاليم فيسترشد بها وديناً فيعتنقه وقيماً خلقية فيتمسك بها " (2) بحيث يجد فى ذلك كله وسطاً صالحاً ينشأ فيه فنه، وتتكون فلسفة حياته، ويستمد منه تجاربه وموضوعاته، بل كيفية معالجته لتلك الموضوعات .
وإذا كان النقاد قد عوّلوا على ضرورة معرفة البيئة فى نقد الشعر، فى كل جيل وأمة، فإن ذلك يجعلنى أبدأ بتناول عناصر تلك البيئة المؤثرة فى الشاعر محاولاً تتبع ملامحها وانعكاسها على شخصية ابن النبيه، وتتضح هذه المؤثرات فيما يلى :
3أولا - ملامح الطبيعة والشخصية وأثرهما
لقد وقعت مصر فى موقع يتميز بالعبقرية، جعل لها شأناً عظيماً على مر التاريخ، وجعل المؤرخين يفتنون بسحرها وجمالها، فنجد القلقشندى مثلا يذهب إلى أن مصر مليئة بالمحاسن، " فهى من أعظم الأقاليم وأجلها قدراً وأفخمها مملكة، وأطيبها تربةً، وأخفها ماءً، وأخصبها زرعاً، وأحسنها ثماراً، وأعدلها هواءاً، وألطفها ساكناً..... ولذلك نرى الناس يرحلون إليها وفوداً، ويفدون إليها من كل ناحية وقلّ أن يخرج منها من دخلها، أو يرحل عنها من ولجها " (3) ولقد ساعدت هذه المميزات على تكوين الذوق المصرى القادر على مسايرة الألوان الثقافية على مر التاريخ والاهتداء إلى ما يلائمه منها، مما جعل الميل إلى الأدب شيئا طبيعيا عندها، ويرى الشيخ أمين الخولى " أن مصر بطبيعتها مواتية للمدرسة الأدبية فى دراسة البلاغة، التى تعتمد على الذوق وحاسة الجمال فى تقدير المعانى الأدبية دون النظريات الفلسفية والقوانين المنطقية ونحوها " (4) وجاء ذلك استجابةً من المصريين، - كما يقول البهاء السبكى - لما " طبعهم الله تعالى عليه من الذوق السليم، والفهم المستقيم، والأذهان التى هى أرق من النسيم، وألطف من ماء الحياة فى المحيا الوسيم، أكسبهم النيل تلك الحلاوة، وأشار إليهم بإصبعه فظهرت عليه هذه الطلاوة " (5) .
ولقد انعكست تلك الطبيعة المصرية على الشعراء من مصر ومن الشعراء الذين وفدوا إليها من خارج مصر، فأخذوا يعبرون عن ذلك فى شعرهم، فمثلا نجد على بن سعيد المغربى المتوفى سنة 673هـ يكتب إلى الشاعر المصرى ابن النقيب يقول :
أيا ساكنى مصرَ غدا النيلُ جارَكمُ
فأكسبَكُمْ تلك الحلاوةَ فى الشِّعرِ
 
وكان بتلك الأرضِ سحرٌ وما بقَى
سوى أثرٌ يبدُو على النَّظمِ والنَّثرِ(6)
فالشاعر يعيد ما تتميز به البيئة المصرية والفن المصرى من الحلاوة والجمال، إلى النيل الذى سالت عذوبته وسحره، فصُبّت فى ذلك الأدب شعره ونثره " وما أحسن ما أنشده العلامة زين الدين عمر بن الوردى، حيث قال فى هذه الأبيات شعراً :
ديارُ مصـرَ هى الدُّنيا وساكنُها
هـمُ الأنـامُ فقابلْـهَا بتقبيـلِ
 
يا مَنْ يُباهى ببغـدادٍ ودِجلتِها
مصرُ مقدمةٌ والشرحُ للنيلِ (7)
هذا عن البيئة المصرية، أما عن الشخصية، فلقد اختصت بخصائص كان من أهمها البساطة والسهولة " فالمصريون أبناء السهولة والحياة السهلة، حياة زراعية رتيبة لا تكلفهم عناءً ولا مشقةً، فقد كفل لهم فيها الرزق " (8) وقد ألقت هذه الخصيصة بظلالها على الفن المصرى، حيث " استلهمها الفنان المصرى من بيئته وأودعها فنه...وتنطبع هذه السمة على خلق المصريين، فهم يتسمون بالفكاهة والنادرة " (9) وهذا أدى إلى انطباع تلك الشخصية بالمرح والقدرة على اصطناع النكتة والسخرية التى يصبّونها على كل شىء، ويتخذونها سلاحاً ضد الطغاة والشاذين من أبناء المجتمع، وإذا كان هذا هو انطباع السهولة والبساطة على خلق المصريين " فأولى به كذلك أن يكون صحيحاً فى الآداب المصرية عامةً، فقد امتازت هذه أيضاً بالوضوح والبساطة من حيث المعنى أولاً، ومن حيث اللفظ نفسه بعد ذلك " (10) والمتصفح لديوان ابن النبيه، ودواوين غيره من شعراء العصر الأيوبى، يجد أثراً وانطباعاً بهذه الخصيصة فى المعانى والأسلوب والصور والموسيقى، فأغلبها يتسم بالسهولة والبساطة، وتعكس لنا ما يتميز به المصريون من رقة الطبع والإخلاص، ويرى الدكتور محمد زغلول سلام أن " أكثر ما تظهر هاتان الخلتان فى الشعر فى الغزل، وفى الإخوانيات، والغزل رقيق فى معانيه، رقيق فى ألفاظه، يكاد يذوب رقه وعذوبة، كذلك الإخوانيات يطبعها الوفاء العميق المكين، وكثيراً ما تبادل الشعراء رسائل الشعر التى تفيض رقةً وإخلاصاً وحباًّ " (11) والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، فمثلا نجد البهاء زهير الذى امتلأ ديوانه بالإخوانيات واللطائف الجميلة التى تدل على خفة الروح المصرية، يكتب فى إحدى مقطعاته إلى صديق يسأله الوصال فيقول :
يـا غائبـاً وجميــلُهُ ما غـابَ فى بُعدٍ وقُـرْبِ
أشكو لكَ الشـوقَ الَّذى لاقـيتُـهُ والذَّنـبُ ذنـْبى
فعسَى بفضــلٍ منْك أنْ تَرعَى رفيْْقَـكَ وهُـوَ قلْبِى
واسْألــهُ عنْ أخبـارِهِ واستَغنِ عنْ مضمونِ كُتبى (12)
فنلاحظ أن رقة الطبع قد تركت آثارها فى شعر البهاء زهير، فأورثته الرقة فى التعبير، والبعد عن التعقيد اللذين ينسابان فى جريان ماء النيل، وكذلك ألهمته المعانى السهلة القريبة المأخذ .
وإذا كانت هذه المؤثرات قد أسهمت فى تكوين ابن النبيه من حيث السمات العامة لشخصيته الشعرية، إذ انعكست رقة وسهولة على هذا الشعر، فثم مؤثر آخر له تأثيره الواضح على شعر ابن النبيه، يتحدد هذا المؤثر فى الجانب السياسى وما يستتبعه من إفرازات فى الحياة الفكرية والفنية .
ثانيا - الحياة السياسية فى عصر ابن النبيه
لقد نشأ شاعرنا فى عصر ملىء بالمتغيرات السياسية ؛ حيث شهد تحوّلاً خطيراً بزوال الدولة الفاطمية الشيعية، وتأسيس دولة بنى أيوب السنية " التى أوقفت مواردها ورجالها للذود عن البلاد الإسلامية وعن الدين الإسلامى، فوقفت أمام صيحى أوربا تكافح وتناضل طوال هذه القرون، حتى أدخلت اليأس فى قلوب الأوربيين وجعلت آمالهم وأحلامهم قصوراً بنيت فى الهواء " (13)
ولقد بدأ تأسيس هذه الدولة فى مصر نتيجة التنافس بين شاور و ضرغام على الوزارة فى أواخر الدولة الفاطمية، واستنجد شاور بنور الدين محمود سلطان حلب، واستنجد ضرغام بعمورى ملك بيت المقدس، وانتهت الحملات بانتصار جيوش نور الدين على الصليبيين فى مصر، ومقتل شاور وزير العاضد، وتولية أسد الدين شيركوه الوزارة من بعده، ولُقّبَ بالملك المنصور أمير الجيوش (14)، ولكن يبدو أن أسد الدين لم يمكث كثيراً فى وزارة العاضد ؛ حيث توفى سريعاً " وكانت وفاته يوم السبت الثانى والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربعٍ وستين وخمسمائة، فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، وقيل شهرين" (15) وبعد موت أسد الدين شيركوه أرسل العاضد إلى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبى يأمره بالحضور إلى قصره " ليخلع عليه خلعة الوزارة، ويوليه الأمر بعد عمه" (16)وفى ذلك يقول العماد الأصفهانى:
هنيئاً لمصرَ حوزَ يُوسفَ ملكَـهَا
بأمـرٍ من الرحمنِ قـد كانَ موقُوتَا
 
وما كان فيها قتلَ يوسـفَ شاوراً
يمـاثـِلُ إلاّ قتـلَ داودَ جالـُوتـَا
وقلتُ لقلبِى : أبشرْ الـيومَ بالمُنَى فقد نلتَ ماأمَّلتَ، بل حُزتَ ماشِيتَا (17)
وكانت الأوضاع التى مرت بها مصر عند تولى صلاح الدين الوزارة على حالة كبيرة من السوء ؛ حيث تعددت القوى من الخارج والداخل، فكان فى الخارج جبهة مسيحية أوربية تتحين الفرصة للانقضاض على دولة الإسلام، ومن الداخل أخطار هددت استقرار صلاح الدين، وأهمها ثورة السودانيين، ومؤمرات الخلافة الفاطمية " لما كانت تدركه هذه الخلافة من أن صلاح الدين - السنى الشافعى- لن يتقاعس عن القضاء على نظام الحكم الشيعى عندما تتحين له الفرصة، وكان صلاح الدين فى نفس الوقت يخشى من أن يقوم بتصفية الحكم الشيعى فيواجه بثورات أكبر من قدراته، وخصوصاً أن صلاح الدين لم يكن قد تبين بعد حقيقة مشاعر المصريين نحوه " (18) وعلى الرغم من محاولاته اصطناع الحكمة فى التعامل مع تلك الظروف، إلا أنه اضطر تحت إلحاح من نور الدين محمود والخليفة العباسى إلى قطع الخطبة للخليفة العاضد الفاطمى، ونودى بها للخليفة العباسى المستضىء، وكان هذا نهاية للدولة الفاطمية الشيعية، وتأسيساً للدولة السنية الشافعية الأيوبية (19) ولقد تميز صلاح الدين الأيوبى مؤسس تلك الدولة بمميزات كثيرة، أهّلته وجعلته جديراً بتلك المكانة، فكان " يحب العلماء وأهل الخير، ويقربهم ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل، ويستحسن الجيد من الأشعار ويرددها، وكان كثيراً ما ينشد قول محمد بن الحسين الحميرى، وقيل ابن خيران أمير المرية :
وزارنى طيفُ مَنْ أهوَى على حَذَرٍ
من الوشاةِ وداعى الصُّبحِ قد هتفَا
 
فكدتُ أوقِظُ مَنْ حولى به فـرحـاً
وكادَ يهتِكُ سِترَ الحُـبِّ بى شَغَفَـا
 
ثُمَّ انتهيـتُ وآمالـى تُخيـِّلُ لِـى
نيلَ المُنى فاستحَالَتْ غِبْطَتِى أسَفَا
وكان يعجبه قول نشو الملك بن المنجم فى خضاب الشيب، ولقد أحسن فيه:
وما خضَّبَ النَّاسُ البياضَ لقُبْحِهِ
وأقبحُ منـهُ حيـنَ يَظهرُ ناصِلُـهْ
 
ولكنَّهُ مـاتَ الشَّبـابُ فسـوِّدتْ
على الرَّسْمِ من حُزنٍ عليهِ مَنازِلُهْ (20)
وتوفى الملك الناصر سنة تسع وثمانين للهجرة، ولما مات وُزِّعَ ملكه بين أبنائه، وكانوا جميعاً مثل الأقمار المضيئة والسيوف المسلولة على أعداء الله، وأكبرهم هو الملك الأفضل " المعهود إليه بالسلطنة، وكان فاضلاً شاعراً، حسن الخط قليل الحظ، وفى ذلك يقول:
يا مَـنْ يُسَـودُ شعرُهُ بخِضَابِهِ
لعسَاهُ من أهلِ الشَّبيبةِ يَحْصُلُ
 
ها: فاختضِبْ بسوادِ حظِّى مرَّةً
ولكَ الأمـانُ بأنَّه لاَينُصَلُ (21)
ولكن يبدو أن الملك لم يظل كما هو لأبناء صلاح الدين، إذ كان يتربص بهم عمهم الملك العادل أبوبكر بن أيوب، ويذهب ابن الأثير إلى أنه من أعجب ما رأى " من منافاة الطوالع أنه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل " (22) الذى كان ملكاً داهية، مشغولاً بالدهاء، " وكان عاقلاً ذا رأىِ سديد ومكر شديد وخديعة صبوراً حليماً ذا أناة يسمع ما يكره ويغض عليه حتى كأنه لم يسمعه.... ملك دمشق سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة من الأفضل بن أخيه وملك مصر فى ربيع الآخر من سنة ست وتسعين منه أيضا " (23) وامتد ملكه امتداداً كبيرا لدرجة أنه لم يستطع أن يحكمه وحده " فقسم البلاد فى حياته بين أبنائه " (24) الذين كانوا نعم الأبناء، فلم يجر بينهم خلاف فى يوم من الأيام، ويذهب ابن واصل إلى أن من سعادة العادل أننا " لم يبلغنا عن أحد من الملوك الماضيين أنه رأى فى أولاده ما رأى، فإنه اجتمع فى كل واحد منهم من النجابة والكفاية والشهامة والفضيلة مالا مزيد عليه، فهم كما قال الشاعر:
مَـنْ تلْقَ منهم تقُلْ لاقيتُ سيدَهُمْ
مثلُ النجومِ التى يَسرى بها السَّارى (25)
ويقول فيهم ابن عنين :
ولهُ الملوك بكـلِّ أرضٍ منهُم
ملكٌ يجرُّ إلى الأعادى سكَرَا
 
من كُلِّ وضَّاحِ الجبيـنِ تُخالـه
بدراً فإنْ شهدَ الوَغَى فغضَنْفَرا
 
يسمو إلى نـارِ الوغى شَغفاً بها
ويَجلُّ أن يسمو إلى نـارِالقِرَى
 
مُتقـدمٌ حـتى إذا النَّقْـعُ انْجلَى
بالبِيدِ عن سَبْى الحريم تأخَّـرا (26)
وكان من أعظم أبناء العادل الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى " وكان جوّاداً حيياً عادلاً سخياً، لو كانت الدنيا بيده، ودفعها لأجل الناس ما استكثرها، ميمون الطلعة، ما كسرت له راية قط.... " (27) مما ساعده على أن يوسع مملكته وأطلق عليه (شاه أرمن) وذلك لأنه كان ملكاً على خلاط، وهذا لقب يطلق على ملوكها . ويُذكر أن الأشرف كان قائداً شجاعاً، لعب مع أخيه الكامل دوراً هاماً فى الدفاع عن الإسلام والمسلمين، خصوصاً عندما عاد الفرنج لاحتلال دمياط، وأعملوا فيها الخراب " وقد عجز أهلها، وأكلوا الميتة، وحصل لهم وباء عظيم .... " (28) فأرسل الكامل إلى أخيه الأشرف يستدعيه " وتابع الكتب إليه، وكان مما كتب إليه هذه الأبيات:
يا مُسعِـفِى إن كنتَ حقـاً مسعِفِى
فـارحـلْ بغيرِ تلبُّثٍ وتوقُّـفِ
 
واحثثْ قلوصَك مُرْقـلاً أو موجفاً
بتجشـمٍ فى سيْـرِها وتعسُّـفِ
 
واطو المنازلَ ما استطعتَ ولا تُنِخْ
إلاعلى باب المليكِ الأشرفِ (29)
فتتابع ملوك بنى أيوب بجيوشهم، وانقلبت موازين الحرب، حتى انتصر المسلمون، وألهم هذا الانتصار الشعراء بفيض من الأحاسيس والمشاعر عبروا عنها فى قصائدهم، مثل قصيدة ابن عنين التى يهنىء فيها بنى أيوب بالانتصار يقول :
سلُوا صهواتِ الخَيلِ يومَ الوغَى عنَّا
إذا جَهِلـتْ آياتِنـا والقنـَا اللُّدنـَا
 
غـداةَ لقينـا يـومَ دميـاطَ جحفلاُ
مـن الـرومِ لا يُحصَى ولا ظَنــَّا
 
قـد اتّفقـُوا رأيـاً وعـزماً وهِمَّةً
وديناً وإن كانـوا قـد اختلفُوا لُسْنا
 
تداعَوا بأنصـارِ الصَّليـبِ وأقبلتْ
جمـوعُ كأنَّ المـوجَ كان لهـا سُفْنَا
 
فمـا بَرِحَـتْ سُمرُ الرِّماحِ تنوشُهم
بأطرافِهـا حتى استجـارُوا بِنا مِنَّا
 
سقيناهُـمْ كأساً نفـتْ عنهمُ الكرَى
وكيف يذوقُ النـومَ من عـدِمَ الأمْنَا
 
لقـد صبَروا صبراً جميلاً ودافَعـُوا
طويلاً فمـا أجـدَى دفاعٌ ولا أغْنَى (30)
وكان ابن النبيه المصرى من بين من اهتموا بهذا الانتصار، حيث صور أهميته - كما سنرى فيما بعد - وعكس دور الملك الأشرف فى هذه المعركة.
ولقد أسهمت هذه البيئة السياسية فى تشكيل الشخصية الفنية لابن النبيه، حيث أمدته بمدد فياض من الأفكار والأخيلة الغنية التى وظفها شاعرنا ليس فى شعر الحرب فقط، ولكن أيضاً فى شعر الحب والطبيعة، بالإضافة إلى أن دور ملوك بنى أيوب فى حماية المسلمين، وما حققوه من بطولات وضع أمام الشاعر وغيره من شعراء عصره صورةً ومثلاً أعلى للبطل الذى يستحق المدح بصدق وإخلاص .
ثالثا - الحياة الثقافية والفكرية:
وإذا كان هذا هو شأن السياسة فثم مؤثر آخر له خطره وقيمته فى تكوين شخصية الشاعر، ويتمثل هذا المؤثر فى الجانب الفكرى والثقافى الذى اهتم به الأيوبيون ؛ حيث دعّم أركان دولتهم، وجعلها دولة تضرب بجذورها فى أعماق التاريخ، وتتمثل هذه البيئة فى الوسط التعليمى، والظروف التهذيبية التى نشأ فيها الأدباء، وتأثروا بها، والنظم التى ساروا عليها وأخذوا بها فى دراساتهم، ونوع الدروس التى تلقوها وازدادوا بها علماً " وهذه البيئة ذات أثر بالغ فى الأدباء كتّاباً وشعراء، فإذا كانت البيئة الطبيعية أو الاجتماعية - مثلا - تزود الأديب بالغذاء الروحى والعاطفى، فإن البيئة الثقافية تزيد عليهما مده بالغذاء الفكرى، وخيال الشاعر إنما يصرفه قائدان هما: العاطفة والفكر " (31)
وإذا بدأنا فى النظر إلى تلك البيئة فى ذلك العصر، فسوف تقع أعيننا مباشرة على المحرك الحقيقى للثقافة والفكر فيه ألا وهو المذهب العقائدى ؛ حيث شهد تحولا خطيراً من المذهب الفاطمى الشيعى، إلى المذهب السنى الشافعى، ولم يكن التشيع فى مصر ذا فلسفة خاصة معقدة، فعلى الرغم من اعتناق عدد كبير من المصريين هذا المذهب فى العصر الفاطمى، وانشغالهم بعقائدهم إلا " أن أكثر مسلمى مصر فى هذا العهد كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة وأن قليلاً منهم كانوا يدينون بالتشيع، ولكن هؤلاء الشيعة من المصريين لم يشتركوا اشتراكاً إيجابياً فى حركات فرق الشيعة التى ظهرت فى الأقطار الإسلامية الأخرى.... إنما كان التشيع فى مصر يكاد ينحصر فى حب أهل البيت " (32) فجنحت إلى طريق السهولة والوضوح مما كان له أثره الطيب فى تفكيرها .
ومثلما انتشر المذهب الشيعى بالدعوة العلمية حاول الأيوبيون محاربته بنفس السلاح، وذلك للعودة إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فنجد مؤسس تلك الدولة وهو صلاح الدين الأيوبى يحاول جاهداً اصطناع الكثير من السبل للقضاء على آثار الشيعة، فحرص على " أن يعزل قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة ويولى أقضى القضاة بها حيدر الدين بن درباس الشافعى، واستناب فى سائرالأعمال شافعية " (33) وأيضا حاول القضاء على آثار الشيعة الأدبية والعلمية، وأهم شىء عمله هو التخلص من الخزائن العظيمة التى حوت تلك الآثار " وكانت أعظم خزائنهم خزانة القصر الفاطمى، كان لها فى القصر أربعون خزانة، من جملتها واحدة فيها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة، وقد اختلف المؤرخون فى عدد ما بالخزائن من الكتب" (34) ولكن لم يمنع ذلك صلاح الدين من التخلص من تلك الكتب، وبهذا ضاعت آثار حقبة كاملة من التاريخ العلمى والأدبى الخاص بمصر .
وهناك محاولة أخرى لطمس آثار الشيعة فى مصر ألا وهى بناء الأيوبيين للمدارس، وذلك للتعامل مع المعتقدات الشيعية بطريقة علمية، فكثرت المدارس وتنوعت فى هذا العصر فكان " منها معاهد لتدريس الفقه، تخصص معظمها لمذهب واحد من مذاهبه الأربعة فهذا للشافعية وذاك للمالكية وغيرها للحنفية أو الحنابلة،وكان أكثر المدارس الخاصة بمصر للشافعية، ثم للحنفية فالمالكية " (35)
وهناك هدف آخر لبناء المدارس ألا وهو إعداد الفقهاء الذين يتحملون مسئولية تشجيع الناس على الجهاد الذى كان الهدف الذى أوقف صلاح الدين حياته عليه " فكان هؤلاء الفقهاء يشحذون همم الناس، ويستثيرونهم على الجهاد، وكان الجهاد رسالة صلاح الدين فى الحياة وتبعه على هذا خلفاؤه " (36)
ويذهب الدكتور عمر موسى باشا إلى أنه على الرغم من محاولات الأيوبيين السابقة لاقتلاع آثار الشيعة واعتمادهم " منذ بدء عهد صلاح الدين على المذهب الشافعى بعد إلغائهم الذاهب الإمامية والإسماعيلية الأخرى، غير أنهم لم يفلحوا فى القضاء تماماً على ما خلفه الفاطميون، لا لأن الشعب المصرى كان يتمسك أو يؤمن بها الإيمان المطلق، بل لأن الكثير من مظاهر التشيع والرواسب الدينية الأخرى قد طبعت حياة هذا الشعب بطابعها، ودرجت مع كثير من عاداته، ومن الطبيعى أن يمر عليها حين من الدهر ليتم التخلص منها، وقد تبقى بين عاداته دون أن يشعر بها " (37) ويؤكد رأيه هذا بأنه ليس " من اليسير أن تزول فى سنوات ما أرسخته الأيام فى مدى السنين، ولذلك نرى الشاعر يشير إلى أهل السنة والشيعة فى معرض حديثه عن المؤيد، إذ استوى عنده الشيعى والمتسنن:
ودعا ندى ابنِ علىّ كلَّ مودةٍ
حتى استوى الشيعىُّ والمتسنِّنُ (38)
ولقد أدى بقاء بعض الرواسب الشيعية فى العصر الأيوبى إلى ظهور مدرسة شعرية يظهر فى أشعار أدبائها المصطلحات والعقائد الفاطمية، على الرغم من أن الشعراء لم يكونوا من الشيعة، وأن الممدوحين لم يكونوا من الشيعة، ومثال ذلك قول ابن سناء الملك فى مدح صلاح الدين :
قـد ملكـتَ البـلادَ شرقاً وغرباً وحويـتَ الآفاقَ سـهلاً وحَزْنَا
واغتدى الوصفُ عن عُلاكَ حسيراً أىُّ لفـظِ يُقـالُ أو أىُّ مـعنَى
ورأينـا ربَّنـا قـال : أطـيعُـوا سمعنَــا لربِّنـا وأطعْنَـــا (39)
فنجده يُضمن – على عادة شعراء الفاطميين - الآية " وأطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسولَ وأولِى الأمْرِ منكمْ " (40)وقال الدعاة:إن هذه الآية أنزلت فى على بن أبى طالب (41).
وليس أدل على وجود تلك الرواسب مما ورد فى شعر أحد ملوك بنى أيوب - دعاة المذهب السنى ورواده - وهو الأفضل على بن صلاح الدين، عندما تعاون أخوه العزيز عثمان مع عمه العادل أبى بكر عليه، فأرسل شكواه إلى الخليفة العباسى مشبهاً الوضع بما ادعاه الشيعة من اغتصاب أبى بكر وعثمان لحق على بن أبى طالب فى الخلافة يقول (42):
مـولاى إنَّ أبـا بـكرٍ وصاحبُـه
عثمان قد غصبَا بالسيفِ إرثَ على
 
فانظرْ إلى حَظِّ هذا الاسمِ كيف لقى
من الأواخِرِ، ما لاقَـى من الأُولِ (43)
والأعجب من ذلك أنا نجد الخليفة العباسى إمام أهل السنة فى عصره يرد عليه قائلاً:
وافَى كتابُك يا ابنَ يوسفَ معلناً بالـودِّ يُخبرُ أن أصلَكَ طاهِرُ
غصَـبُوا عليـاً حقَّه إذْ لمْ يكنْ بعـدَ النَّبىِّ لـهُ بيثربَ ناصرُ
فاصبرْ فإنَّ غداً عليه حسـابَهم وابشرْ، فناصرُك الإمامُ الناصرُ(44)
ونخلص من هذا إلى أن المعتقدات الشيعية التى غرسها الفاطميون فى مصر، وحاول الأيوبيون بكل السبل اقتلاع جذورها، أثبتت الأدلة والحقائق أنها ظلت سائرة فى فكر فنانى مصر وأدبائها، وتجلت رواسبها فى أشعارهم، وخصوصاً فى المدائح التى مدحوا بها ملوك الأيوبيين، وكان لذلك أثره الواضح فى ديوان ابن النبيه بما أمدته من أفكار وعواطف وتعبيرات، بل اقتباسات جعلت مدائحه موضع دهشة باعتبارها مدائح لملوك سنيين وليسوا شيعة فاطميين .
وإذا كانت هذه المؤثرات السابقة قد أسهمت فى تشكيل فكر ابن النبيه - بل شعراء عصره جميعهم - فإن الأمر يدعونا إلى بيان البيئة التى أفرزتها هذه المؤثرات ألا وهى البيئة الأدبية .
رابعا - الحياة الأدبية فى العصر الأيوبى
لقد تطور الأدب المصرى فى العصر الفاطمى تطوراً كبيراً، ودعا إلى ذلك ميل الخلفاء الفاطميين إلى منافسة الدولة العباسية ببغداد " وكأنها نصبت نفسها نداً لها، فكل مظاهر الخلافة بجلالها وفخامتها فى بغداد كان لها نظيرها فى مصر، بل أكثر مما كان لها هناك، وإذا كان الشعراء يزدحمون على أبواب الخلفاء العباسيين فى بغداد، ويتنافسون فى مدحهم، والتقرب منهم، فلم لا يزدحم الشعراء على أبواب الخلفاء الفاطميين فى القاهرة، ولم لا يجذب الخلفاء أنفسهم الشعراء ويشجعونهم على الوقوف بأبوابهم ؟... " (45) ولقد وصلت عناية الدولة الفاطمية بالشعراء " أنها حصرت أسماءهم فى ثبت خاص ورتبتهم على أقدارهم فى الشعر، كترتيب الزوّار فى السلك السياسى، وجعلت لهم فى إنشاء الشعر نظاماً معيناً يتعاقبون عليه، ولا يخرجون عنه فى المناسبات التى ينشد فيها الشعر، كالمواسم والأعياد " (46)
ولما انقضت الدولة الفاطمية، وحل محلها الأيوبيون بمذهبهم السنى الجديد، لم يضعف الأدب بل زادت قوته ؛ وذلك لأن " التغيير السياسى وزوال دولة وتأسيس أخرى لم يضعف الفن الأدبى فى مصر، بل ربما استفاد الأدب من هذا التغيير السياسى فوائد لم يكن ليحققها لو استمر الفاطميون على ما كانوا عليه " (47) وقد بدت فى الأفق عوامل جديدة، ساعدت على ازدهار الأدب واعتلائه مكانة مرموقة فى مملكة الحياة، ويذهب الدكتور أحمد بدوى إلى أن الزعامة الأدبية فى عصر الحروب الصليبية كانت لمصر والشام " ففيها غزر الإنتاج العربى ونشأ أعظم الأدباء فى ذلك العصر " (48) ولقد ساعد على ازدهار الأدب فى هذا العصر عوامل كان من أهمها:
1- تشجيع ملوك بنى أيوب للأدباء والشعراء
عمل ملوك بنى أيوب على تشجيع الأدباء والشعراء ومساعدتهم على النهوض والتقدم فقرّبوا الشعراء وجلسوا لاستماع قصائدهم، ولم يبخلوا عليهم بالمال والعطاء الجزيل " وكان صلاح الدين يهوى الشعر، ويحب أن يسمعه عندما يهجع إلى نفسه بعد المعارك...، وكثيراً ما كان يستدعى بعض مقربيه، ويطلب إليه أن يقرأ عليه فى ديوان أحد الشعراء، وكان ديوان أسامة بن منقذ الشاعر الشامى المعاصر من آثر الدواوين لديه..." (49)
ولم يكن اهتمام خلفاء صلاح الدين بأقل من اهتمامه، فكانوا يتأثرون بالشعر ويؤثر فيهم، فتراسلوا به ودخل ضمن ثقافاتهم، وتمثلوا به كلماعنَّ لهم ما يدعو إلى القول العاطفى المثير، ونبغ منهم جماعة فى قول الشعر كالأمير تاج الدين بورى الأخ الأصغر لصلاح الدين، والأفضل على بن صلاح الدين الأكبر، ووصلنا دواوين لبعضهم مثل ديوان تاج الدين بورى والأمجد شاهنشاه والناصر داود، كما روت كتب الأدب والتاريخ نماذج كثيرة من أشعارهم، ومن ذلك قول تاج الدين بورى:
آهِ مـن وردِ على خـدَّ
يــكَ بالمسكِ مُنفّطْ
 
بين أجـفانِـك سلطـا
نٌ علـى ضعفِى مُسلّطْ
 
قـد تصبَّـرتُ وإن بر
ح بى الشـوقُ وأفرطْ
 
فلعـلَّ الـدهرَ يومــاً
بالتَّـلاقِى منـك يَغْلطْ (50)
فالأبيات تعكس لنا موهبة شعرية وحساً فنياً بمقومات هذا الفن وأصوله، مما يجعلنى متحفظا فى قبول رأى د. أحمد سيد محمد الذى يذهب فيه إلى أن حكام الأيوبيين نبع موقفهم من الشعر " من المجاراة لما كان يسود المجتمع، فشارك فيه بعضهم أو معظمهم، مجاراة لتقليد اجتماعى . ففى ديوان عمارة اليمنى نلاحظ حديثه عن دعوات وجهت إليه لزيارة بعض حكام الأقاليم فى العصر الأيوبى، وهذا يشير إلى أن هؤلاء الحكام كانوا حريصين على نوال مديحه حرصهم على الشارات العسكرية أو الحربية، ولم يكن دافعهم التذوق الفنى أو التشجيع الأدبى لذاته " (51)
والذى ينظر إلى واقع التاريخ الأدبى فى ذلك العصر يجد نفسه متحفظاً فى قبول هذا الرأى فقد " كان الخلفاء والأمراء والوزراء لا ينسون أنفسهم يوم أن تضع الحرب أوزارها، ويخمد أوارها، فيعقدون الندوات، يستمعون فيها إلى النوادر والفكاهات، أو يطربون بتغريد إحدى المغنيات، أو يتبارون مع الشعراء فى مدارسة الشعر ونقده"(52)
إذن فالأمر ليس ناتجاً عن ضعف فى التذوق الفنى ومحاولة تقليد، وإنما جاء عن موهبة حقيقية وإحساس عال بمقومات اللغة الشاعرة ومسئوليتهم تجاهها.
2 – كان الصراع بين المسلمين والصليبيين من المؤثرات التى أثرت فى الأدب المصرى فى العصر الأيوبى وكان من أهم الأسباب التى أدت إلى ازدهار الأدب فى ذلك العصر  ؛ حيث لعب الشعر دوراً عظيماً فى أحداث هذا العصر " وكان صورة لها عكس مراحل الحروب الصليبية، وما حصل عليه المسلمون من انتصارات، أو نكبوا به من هزائم، فوصف ما لاقاه المسلمون أول تلك الحروب على أيدى الفرنج الغاصبين من ضروب القتل والتخريب وخاصة فى القدس، وتشرد آلاف المسلمين وخروجهم من ديارهم هائمين على وجوههم لاجئين إلى بلاد الشام ومصر والعراق " (53)
ولقد كانت تلك الحروب نبعا فيّاضا لا ينضب معينه يمد الشعراء بالأخيلة الخصبة والعواطف الجياشة، فقد " شارك شعر الحماسة ضد الصليبيين فى العصر الأيوبى فى مصر والشام فى تصوير هذه المعارك، مما يجعله بلاغاً جريئاً عن سير المعارك وتطور نتائجها، كما أنه يُعَد وثيقة سياسية وتاريخية هامة لتسجيل أحداث الحروب الصليبية فى مصر والشام " (54) مثل قول البهاء زهير فى تهنئة الملك الكامل بانتزاع ثغر دمياط من الإفرنج :
هو الكاملُ المولى الذى إن ذكرتُـه
فيا طـربَ الدُّنيا ويا فرحَ الدَّهـرِ
 
به ارتُجِعَتْ دمياطُ قهراً من العِـدا
وطهَّرها بالسيفِ والملةِ الطُّهْــرِ
 
ورد على المحرابِ منها صلاتَـه
وكم باتَ مشتاقاً إلى الشَّفعِ والوترِ
 
وأقسم إن ذاقتْ بنو الأصفرِ الكرَى
فلا حلُمت إلا بأعلامه الصُّفـرِ(55)
وهذا العصر الملىء بالبطولات جعل المسلمين يبصرون حقيقة ما يضمره الأعداء لهم، مما أظهر شيئاً جديداً ولوناً هاماً من ألوان الشعر، ألا وهو - على حد تعبير الدكتور محمد كامل حسين - فكرة القومية الإسلامية، والتى نتجت عن الأمر الذى بذله صلاح الدين فى توحيد كلمة المسلمين "وكان الأدب - شعراً ونثراً – هو اللسان المعبر عن هذا الشعور، وإذا تصفحنا كتب التاريخ أو دواوين الشعراء يروعنا أن نجد هذا العدد الكبير من القصائد التى قيلت فى هذا الفن الذى أعده جديداً على موضوعات الشعر العربى، وهو فن الشعور بالقومية الإسلامية " (56) فهذا ابن سناء الملك يهنىء صلاح الدين بفتح حلب، ويتغنى بهذه الوحدة بين بلاد الإسلام:
بدولـةِ التُّـركِ عزتْ ملـةُ العـربِ
وبابـنِ أيـوبَ ذلـتْ شيعـة الصُّلـبِ
 
وفى زمـانِ ابـنِ أيوب غدتْ حلـبٌ
من أرضِ مصرَ وصارتْ مصرُ من حلبِ
 
ولابـن أيـوب دانـتْ كـلَ مملكـةٍ
بالصفحِ والصُّلحِ أو بالحـربِ والحربِ(57)
ونرى البهاء زهير فى مثال آخر يهنىء الملك الكامل على انتصاره فى دمياط، ويرى أن بلاد الإسلام جميعها - فى وحدتها - فرحة لهذا النصر العظيم:
وما فرحتْ مصرُ بذا الفتحِ وحدَهـا
لقد فرحتْ بغدادُ أكثرُ من مصرَ
 
فـلو لـم يقـمْ باللهِ حـقَّ قيامـه
لما سلمت دارُ السَّلامِ من الذُّعرِ(58)
ومن أبرز الموضوعات التى تعلقت بالحروب وغيرها " اهتم الشعراء بآراء الفلكيين والمنجمين، وحفلت أشعارهم بالإشارة إليها، ذلك لأن الخلفاء والسلاطين كانوا يستطلعون آراء المنجمين قبل الإقدام على خوض المعارك مع الصليبيين، ليروا لهم الطالع، غير أن كثيراً من تخرصاتهم وتنبؤاتهم كانت تكشف عن عكس ما أخبروا به، وعندئذ يصبح المنجمون هدفاً لسخرية الشعراء وتهكماتهم ويستعيدون قصة فتح عمورية وتهكم أبى تمام بالمنجمين " (59) ومن ذلك قول أبى الغنائم بن المعلم مستهزئا بالمنجمين وادعاءاتهم :
قـل لأبى الفضـل قـولَ معترفِ
مضـى جُمـادى وجاءَنـا رجبُ
 
ومـا جرتْ زعزعـاً كما حكَمُـوا
ولا بـدا كـوكـبٌ لــهُ ذنَـبُ
 
كـلا، ولا أظلمـتْ ذكـاءٌ ، ولا
أبـدتْ أذىً فى قِرانِـها الشُّهُـبُ
قـد بـانَ كذبُ المنجمين، وفـى
أى مقـالٍ قالـوا فما كـذبُـوا
 
مدبِّـرُ الأمـرِ واحدٌ، وليس للسبـ
ـعةِ فى كـلِّ حـادثٍ سبـبُ
لا المشـترى سالم ٌ، ولا زحـلٌ
بـاقٍ، ولازهـرةٌ، ولا قـطبُ
 
تباركَ اللهُ ؛ حصحصَ الحقُّ وانـ
ـجابَ التمادِى ، وزالتِ الرِّيبُ
 
الكتُـبُ (60) وليبطلُ المدَّعـونَ مـا وضعُوا
فى كـتُبِهـمْ، ولتُـحرَق
وهذه المعانى التى قدمناها هى قليل من كثير من المعانى التى أوحت بها الحروب الصليبية، التى تتميز بحرارة العاطفة " وتدل على ما كان يعتمل فى نفوس الشعراء يومئذ من الحياة والقوة، واضطرام نيران الأدب لاغتصاب أرض المسلمين، أو لما أصاب سكانها من تشريد وذبح وتقتيل، ويدلنا هذا الأدب على أن سكان مصر والشام لم ينسوا –على الرغم من مرور الزمن وتطاول الأعوام- هذه البلاد التى اغتصبها العدو منهم، ولم يفقدوا الأمل فى أنهم يوماً ما سيستردون ما فقدوه " (61)
ولقد أسهم شعراء العصر فى الموضوعات التقليدية مثل المدح والغزل والخمريات، وأضافوا إليها معانى جديدة من إبداعهم، فالغزل مثلا كان مسايراً لمثله فى الشعر العربى، بل كان امتداداً لسابقه فى العصر الفاطمى " غير أن غزل العصر الفاطمى كان متأثرا بالترف الفاطمى بينما كان غزل الأيوبيين فى أكثره عفيفاً ليس به الفحش الذى كان فى العصر السابق... " (62) فتخفف الكثير من الشعراء من وصف الجمال الحسى وتجاوزوه إلى غزل عذرى، ووصف للفراق والرحيل وآثار الذكرى ومناجاة الحبيب، وانطبق على غزلهم ما قالته الدكتورة سعيدة رمضان على غزل البهاء زهير: " ومن خلال تأملنا فى شعر البهاء الغزلى نستطيع أن نقول إنه ينبغى أن يعد من بين الشعراء المتعففين، أى أن الجانب الحسى ليس له مكان فى شعره، ولا ننخدع بالحديث عن الأوصاف التى يخلعها على المحبوبة، فإن هذه الأوصاف لا تهدف إلى الإثارة أو التعبير القبيح عن الملذات، بل يقصد من ورائها إلى إكمال العمل الفنى بحيث تَتَبدّى صورة المحبوبة جميلة فى الذهن، فيتفق هذا مع التعبير عن الشوق والافتتان ونحو ذلك " (63) فها هو ذا يلقى أمامنا تلك المعانى العذرية الجميلة المغلفة بأسلوبه السلس، وتصويره العصرى البسيط، فيقول فى مقطعه بعنوان (ليلة غراء):
لم يقضِ زيدُكم من وصلِكم وطرَه
ولا قضى ليلُه من قربكم سَحَرَه
 
يا صارِفِى القلبَ إلا عن محبَّتهِمْ
وسالبى الطَّرف إلا عنهُمُ نظَره
 
جعلتُكـم خبرى فى الحب مبتدئاً
وكل معرفةٍ لى فى الهوى نَكِرَه
 
ويتـمُّ الليـلُ فى أمنٍ وفى دَعَةٍ
وليسَ عندكُـم علـمٌ بمَن سَهرِهَ
 
فكـمْ غرستُ وفائى فى محبَّتكُمْ
فما جنيـتُ لغـرسٍ فيكم ثَمَرَه
 
ولـم أنـل منكُمُ شيئاً سوى تُهَمٍ
تُقالُ مشروحـة فينا ومُختصره
 
لله ليلـة بتنـا والرقيـبُ بهـا
ناءٍ فلاعينَـه نَخشَى ولا أثَـرَهْ(64)
فنراه يمزج فى غزله بين المرح والمداعبة والروح المصرية الخفيفة، وبين الصفات المعنوية التى يتحلى بها المحبوب، مبتعداً عن الصفات الحسية أو الجسدية الصريحة، وهذا شأن شاعر آخر هو ابن عطاء الله المصرى الذى يذكر السهر وأثر الاشتياق والوشاة وذوبانه فى حبيبه فيقول:
يـا عيُـونـا باللِّـوى ساهرةً
حــرّم الله عليـكِ الفكـرَا
 
أنـا فى نـارِ اشتيـاقى مُحرقٌ
ووشـاتى تستطيـبُ السَّمَرا
 
والـذى قـد ذُبـتُ من وجد به
وغـرامٌ ليس يَدْرى الخَبـرَا
 
ليتهـم لـو سـامحونى ساعـةً
بحبيـبى فاختلسـتُ النَّظـرَا
 
ليس بَخْتى فى الهوى البختَ الذى
اجتنى البـردَ بـه والزَّهرَا (65)
ومع هذا الوجد والتهالك فى الحب، والعودة بمعانى الغزل قروناً إلى ينابيع العذرية الصافية، إلا أننا نجد " تأثر الغزل بروح العصر وقيمه ومثله، كما تأثر فنا المديح والهجاء، فشاع الغزل بالمذكر بصورة لم يسبق إليها حتى أصبح هذا الفن عادة للشعراء يفتتحون به قصائدهم كما كانت تفتتح قصائد الشعر قديما بالنسيب وبكاء الأطلال وذكر الظعائن، بل إن المجتمع كان يسمح للمتزمتين والمعروفين بالتقوى والورع بالخوض فى هذا الموضوع مجاراة لذوق العصر وتقاليده " (66)
وقد اختلفت الآراء حول هذه الظاهرة، فمحمد سيد كيلانى يرجعها إلى انتشار الشذوذ الجنسى فى هذا العصر،وذلك لانتشار التصوف الذى شجع عليه ملوك الدولة الأيوبية " فلما ابتعد هؤلاء المتصوفون عن الدنيا وأسبابها ولم يكن لديهم من وسائل العيش ما يمكنهم من الزواج، ولذلك تَفشّى فيهم اللواط، وأمر ثان وهو أن الأتراك والأكراد كانوا رجال حرب، يكرهون الزواج ويعرضون عنه "(67)
ولكنى أختلف مع الرأيين لعدم مطابقتهما لواقع الحياة فى ذلك الوقت ؛ لأن التصوف نشأ فى مدارس أهل السنة، وليس من المعقول أن يسمح صلاح الدين وهو على ما هو عليه من الصلاح والتقوى بتفشى هذا الخلق الذميم فى المتصوفة، وقد كان صلاح الدين وخلفاؤه حريصين على تشجيع هؤلاء المتصوفة على الانشغال بالعلم والفقه، فكان المُعظّم يقول لهم " من حفظ الجامع الكبير أعطيته مائة دينار، ومن حفظ الإيضاح أعطيته مائتى دينار، فحفظ الكتابين جماعة كبيرة ووفى لهم" (68) هذا بالإضافة إلى أن متصوفة مصر فى العصور الوسطى لم يكونوا يعيشون لبطونهم، ولم تكن حياتهم كلها طعاماً وشراباً ونعيماً ومتاعاً، بل كانوا يشتغلون دائما بالعلم " وكان يفد إلى الدار التى يقيمون فيها كثيرون من العلماء والفقهاء ليلقوا عليهم دروساً فى الحديث وفى الفقه " (69)
أما عن الرأى الثانى لمحمد سيد كيلانى ورأى الدكتور سلام الذى يرى أن غزل المذكر وغزل المؤنث قد شاع فى المجتمع الإسلامى " نتيجة العكوف على لذة النساء واللذات الجسدية لقلة ما كان يشغل هذا المجتمع من مشاغل سياسية وفكرية، وخصوصا فى العصور المتأخرة، عصور الركود والانحدار، فلم يجد الناس شغلاً يملأون به الفراغ الكبير الذى يحسون به سوى الخلوة بالنساء والغلمان " (70) فإن هذين الرأيين ينفيهما واقع الصراع بين المسلمين والصليبيين من جهة والصراع الفكرى بين أهل السنة والشيعة من جانب آخر، حتى كان من أزهى العصور الفكرية والقومية داخلياً بين الشيعة وأهل السنة ومناهجهم الجديدة، وخارجياً فى الصراع العقائدى مع الصليبيين، و فى الأمرين شغل للعامة والخاصة معاً، لأنه عصر التحول العظيم جداً فى كيان المجتمع العربى – وخصوصاً فى مصر والشام- بصورة لا تسمح بالانحلال الأخلاقى " لأن الملوك الأيوبيين كانوا على حال من الإصلاح لا تسمح بجرأة الناس على ما كانوا يأتون من قبل " (71)
والحقيقة التى لا مراء فيها أن هذا النوع من الغزل قد انتشر ليس بين الشعراء الذين عرفوا بالمجون والخلاعة فقط، بل إن هناك رجال ممن عرفوا بالتقوى والورع قد اشتركوا بشعرهم فى هذا النوع من الغزل " وكان الشعر لا يُروّج ولا يُقبِلُ عليه الناس إلا إذا غلب عليه هذا النوع من الغزل، قال ابن الوردى:
استغفـرُ اللهَ مـن شعـرٍ تقدَّمَ لى
فى المُردِ قصدِى به ترويجَ أشعارِى (72)
فانشغال الناس الشديد بالحروب الصليبية جعل الشعراء يحاولون البحث عما يروج أشعارهم، ويرجع بعض الباحثين شيوع هذا اللون إلى كثرة سبى الحروب الصليبية من غلمان الفرنج الصباح الوجوه، وما كان يجلبه تجار الرقيق من أطفال الترك من أصقاع آسيا، وقد أصبح هؤلاء لملاحتهم وصفاء بشرتهم، موضع قربى من الناس، حتى أصبح ذلك مألوفاً شائعاً، فالسلاطين والأمراء لا يجدون بأساً من اصطحاب هؤلاء الغلمان فى مجالسهم، ولم يرَ الفقهاء وذووا التقوى والصلاح ضيراً فى أن يختص أحدهم بواحد أواثنين منهم لمرافقته فى خلواته يستعملهم لطعامه ووضوئه " (73)
وقد ورد فى الغصون اليانعة أن التلعفرى حضر يوماً فى بستان عند الملك الأشرف فخدمه مملوك له جميل الصورة، فقال له الملك: يا موفق، هل توفق لشىء من النظم فى هذا الذى جمع لك بين الحسن والإحسان ؟ فقال: ياسلطان ما أضيع هبوب النسيم على الروض الهشيم، ثم أفكر ساعة وقال:
أقولُ له وقد أبصرتُ مرآى
يحاكِى غـرَّةَ القمـر المنيـرِ
 
وأخلاقاً كمـا مُزجَت شمولٌ
تدارُ عليـك بالعـذبِ النَّميرِ
 
ولى حالٌ ينافرهـا التَّصابِى
وقـد حـالتْ بإلمـامِ النَّذيرِ
 
لقد أبديتَ لى حسناً وحسنِى
ولكن جئتَ فى الزمنِ الأخيرِ
فقال: والله لقد جاوزت حد الإحسان ! فلله درك ! وبالله لا كتبته إلا بيدى، واستدعى الدواة وكتبها فى دفتر اختياراته " (74) وهذا يدل على أن الغزل بالمذكر كان ظاهرة فنية، وليس نتيجة الشذوذ الجنسى، أو الانحلال الأخلاقى، أوالفراغ الفكرى والعملى، وإلا لترفع عن التشجيع على مثله ملك أيوبى عرف بالورع والتقوى كالملك الأشرف.
ومثلما برع شعراء هذا العصر فى شعر الغزل كذلك برعوا فى الأغراض الأخرى، مثل شعر الخمر ووصف مجالس الشرب " ولهم فى ذلك كله جولات لعب فيه خيال الشعراء، فظهر فى شعرهم بعض المعانى الجديدة التى لم تخطر على بال الشعراء السابقين " (75) فهذا أحد الشعراء يتأمل حركة احتساء الكأس ودعوة امتلائه من يد الساقى فيصور حبيباتها بعقد قد ارتسم فوق الكأس، ثم أخذت صورته تتضاءل فى قاع الكأس عند احتسائها، وكأن صورة العقد وقعت ساجدة:
وكم ليـلٍ جلـوت الكـأسَ فيه
وقد نظـمَ الحَبابَ له عقـودَا
 
ونادَمْنـا بـه صـوراً إذا مـا
احْتساهَا شاربٌ وقعتْ سجُودا
 
يلبسُهـا المديـرُ لـه بـروداً
فيسلبُ شَرْبهـا تلكَ العقـودَا (76)
ومما ارتبط بالخمر " كان الشعراء يدعون بعضهم بعضاً إلى مجالس اللهو حيث الخمر والطرب، ويدعون أصدقاءهم إلى قضاء وقت يطيب فيه الجو لاحتساء الخمر وسماع القيان " (77) فابن مطروح يدعو صاحبه إلى النيل من ملذات الحياة والالتفاف حول كل ما تهوى النفوس:
طابَ شربُ الرَّاح فانهضْ
أيُّهــا الخِـلُّ الرئـيسْ
 
بَـرُدَ الجــوُّ ورقَّـتْ
فى الزُّجــاج الخندريسْ
 
وتـولـى الهـمَّ عـنَّـا
وانطفَــا ذاك الـوطيسْ
 
فـتـفـضَــل فـلدَينْا
كل ما تهــوى النُّفـوسُ
 
مجلـسٌ فيـه من الخُنْـ
سِ صنــوفٌ و جُنُوسْ
 
حيثُمــا استَلفَـتَّ حيَّتـ
ـــكَ بُدورٌ و شُمـوسْ
 
وظبــــاءٌ تَتـهـادَى
بيـن أغصــانٍ تمِيسْ (78)
والمصريون كانوا يقرنون دائما وصف الطبيعة المصرية بوصف مجالس الخمر والمؤانسة بالغواني والغلمان الحسان وكأنهم يتعشقون ثلاثة في مجالس أنسهم " ولقد سحرت مصر بطبيعتها شعراءها، وردد المصريون حديث الطبيعة، والحب وأضفوا عليه من روحهم ومزاجهم، ووجدوا كذلك للطبيعة زينة في ظلال الهوى فوق زينتها، وحمّلوها الأشواق للحبيب القاصي، ووجدوا في مظاهرها إثارة لتباريح الوجد ومحاكاة لشمائل الحبيب " (79) فها هو القاضي الفاضل يستلهم نجوم مصر الساطعة وبيئتها الرائعة في نسج صورة معبرة:
نسجُوا من الليلِ الشعـورَا
وجلَوا مـن الصبحِ البُـدورا
 
ولووا من القضبـانِ والكـ
ـثبِ الروادِفَ والخُصـورَا
 
إن قلت : يحكـونَ النجومَ
صدقـتَ يحكوهـنَّ نُـورَا
 
ومتي سمعت بنجـمِ أفـقٍ
ليـسَ يألـفُ أن يغــورَا (80)
وبجانب تلك الموضوعات التقليدية نجد أن شعراء ذلك العصر قد طرقوا موضوعات أخري، منها ما هو شديد الارتباط بالشخصية المصرية وتأثر بها مثل فن الفكاهة، الذي كان أحد " مقومات الشخصية المصرية، والفكاهة تقوم فى الأغلب علي التلاعب اللفظي وخصوصاً على فن التورية، ثم علي عمق الفكرة،مما يدل علي مهارة المصري وبراعته في هذا الفن من القول وعلي أصالته في نفس الشعب، علي أن كثيراً ما تخرج الفكاهة المصرية إلي شيء من الفحش مما يزيد في أثر وقعها في النفس " (81) وممن برعوا في تصوير الواقع المصري بصورة فكاهية ساخرة (البهاء زهير) ومن ذلك تصوير مشاعره نحو ثقيل وبغلته فيقول:
لـك يا صديقي بَغْلةٌ
ليست تساوي خَرْدَله
 
تمشـي فتحسبهـا العيو
نُ علي الطريق مُشَكّلهْ
 
وتُخـالُ مـدبـرةً إذا
مــا أقبَلتْ مستعجلهْ
 
مقدار خطوتهـا الطَّو
يلةِ حين تُسرعُ أنْمُلهْ
 
تهتـزّ وهي مـكانها
فكأنّمـا هي زَلزلهْ
 
أشبهتَهـا بـل أشَبَهتْـ
ـك كأنّ بينكما صلهْ
 
تحكي خصالَك في الثّقا
لةِ والمهـانةِ والبَلَهْ(82)
والباحث في الشعر والنثر في مصر لا يكاد يلتقي بشاعر أو كاتب عريق في المصرية إلا ويجد له حظاً من الفكاهة، بل قدما راسخاً ويدا طولي وطريقة تبعث علي الضحك، وهو ضحك يظهر سريعاً ويختفي سريعاً ؛ لأن النكتة مبنية علي اللفظ وقَلّ أن تُبْنى علي الفكرة .
ولقد تنوعت المذاهب والاتجاهات الفنية للشعر في ذلك العصر ومن أهمها:
1- اتجاه الصنعة والبديعيات :
وهو المذهب الذي حرص شعراؤه علي تحلية اشعارهم بألوان البديع المتعددة، كالجناس والطباق والتورية ومراعاة النظير " ونسب هذا الاتجاه إلي كتّاب الدواوين، الذين ساروا علي نهج سابقيهم في العصر الفاطمي وعرف عن هؤلاء الكتاب والشعراء مذهبهم، وشاع بين كل أديب يطمح في العمل في الدواوين، أو يريد الاتصال بالأمراء والوزراء، فأصبح مذهبهم الفني بدعة العصر وتقليداً يسير عليه الشعراء والكتاب " (83) وكان للقاضي الفاضل دوره الفعّال في نشاط تلك المدرسة، فهو يُعد زعيمها والرائد الذي سار علي هديه شعراء عصره " وكان فنهم يقوم علي الموسيقي اللفظية قبل كل شيء، واختيار الألفاظ الفخمة الجزلة ذات الوقع الضخم والجرس الموسيقي الذي يؤثر في السمع حلاوة الإيقاع، وكانوا يتلاعبون بهذه الألفاظ تلاعباً تظهر فيه أثر الصناعة وأثر التكلف، وأسرفوا في صناعتهم وتكلفهم إسرافاً يدل علي طول باعهم في هذا الفن " (84) والأمثلة علي ذلك كثيرة ومتعددة ومنها قصيدة القاضي الفاضل التي يمدح بها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين:
الحسنُ جادَ علي الأحبابِ فازدادُوا
لكنَّ أحبابَنا في الحُسنِ ما جادوا
 
فيهـنَّ من شبِـه الغِزلانِ أربعـةٌ
نفـرٌ وطيـبٌ وأحداقٌ وأجيـادُ (85)
ومنها في بيان فضائل العزيز:
يديـُرالملكَ في عثمـان أربعةٌ
حزمٌ، وعزمٌ، وأفكارٌ، وأجيادُ
 
يثني عليـه مـن الأوقاتِ أربعةٌ
يـومٌ، وشهرٌ، وأعوامٌ، وآبادُ
 
تنـدي بجودِك عامُ المحلِ أربعةٌ
أفقٌ، وأرضٌ، وأنفاسٌ، وأكبادُ (86)
والقصيدة جميعها علي هذا النحو من الجهد العقلي، ومحاولة استعراض الثروة اللغوية، وعرضها في مهارة ليست بعدها مهارة، ولكنها - إلي حد ما - تنافي الفن الصحيح .
2 - اتجاه الرقة والسهولة :
الذي يلائم الحياة والبيئة المصريتين اللتين تتسمان بالسهولة وعدم التعقيد، ويمثل هذا الاتجاه الشعر الذي صدر عن مصريين بمولدهم ونشأتهم لا عن مصريين بإقامتهم، وقل أن يظهر فى شعرهم أى لون من ألوان التكلف، أو ألوان الزينة اللفظية " فشعرهم صادر عن طبعهم، ويجرى علي ألسنتهم وكأنهم يغرفون من بحر، وأكثر شعراء هذه المدرسة من الغزليين " (87) وعُرف مذهبهم في العصر الايوبي بالطريقة الغرامية، ولقد رأينا أمثلة علي هذا الاتجاه في شعر البهاء زهير وجمال الدين ابن مطروح وغيرهما .
وسيمثل شعر ابن النبيه صورة واضحة للاتجاهين معاً، بما يعكس لنا مدى تأثره بواقع البيئة الأدبية في عصره وبواقع الظروف التي أفرزت تلك البيئة.
ولعلى أكون قد قدمت فى هذه اللمحات السريعة صورة مجملة لأهم المؤثرات التى ألقت بظلالها على الحياة الأدبية فى ذلك الوقت الذى نشأ فيه ابن النبيه، وكان من أهم هذه المؤثرات طبيعة البيئة والشخصية فى مصر، وما تركته من آثار على وجهة الأدب، من حيث الرقة والسهولة وتكوين ذوق وجدانى وجّه الشعراء إلى انتخاب أسلوب فنى متميز، وكذلك كان للبيئة السياسية وتحول مصر من الدولة الفاطمية الشيعية إلى الدولة الأيوبية السنية أثره أيضاً على مسيرة الفكر والحياة الأدبية فى ذلك العصر، حيث اهتم الأيوبيون بالحياتين العلمية والفكرية وذلك لمقاومة المذهب الشيعى، وإعادة المذهب السنى مما انعكس على الحياة الأدبية، فمدها بالموضوعات الثرية والمعانى الجديدة، والتى لم تمنع الشعراء من التعبير عن مكنون عواطفهم ومشاعرهم فى شتى الموضوعات والأغراض، كل حسب طبيعة اتجاهه الفنى سواء كان من أصحاب مذهب الصنعة والبديعيات أو اتجاه الرقة والسهولة.

هناك تعليق واحد: