جهود عبد القاهر الجرجاني البلاغية والنقدية
جهود عبد القاهر الجرجاني البلاغية والنقدية ،الى درجة أن كتابيه :" أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" الذين الفهما في هذا الباب ،وأغنى بهما المكتبة العربية ، ما تزال الدراسات والأبحاث الأكاديمية تنجز حولهما الى الآن من دون أن تستفذهما او تصل الى منتهاهما ومداهما.
من المؤكد أن هذين المؤلفين ما زالا يشكلان قبلة الباحثين والدارسين، وأن مؤلفهما قدم للدرس البلاغي والنقد العربي خدمات جليلة ،عن طريق اضافات واسهامات هامة ، عرفت بها البلاغة العربية أزهى فترات مجدها وعزها معه ، وبلغت أوجها، حيث اتضحت معالمها في عهده واكتملت صورتها ،بعدما أخذ بيدها واستوت فأصبحت علما قائم الذات، متوجا بذلك جهود العلماء السابقين له في بناء صرحها واقامة كيانها، ممن عملوا على وضع اللبنات الأولى من خلال اجتهاداتهم، وبحوثهم التي مهدت الطريق للاحقين لهم، أمثال عبد القاهر الجرجاني ليتمم مابدؤوه .
فهو يعتبر أن المجاز والتشبيه والكناية، هي الأسس التي يقوم عليها الإعجاز، بل هي الأركان التي تنبني عليها البلاغة نفسها ،ولذلك نجده في" أسرار البلاغة "،يدور حديثه كله ،حول التشبيه بأنواعه والاستعارة بأ ضربها والمجاز بأقسامه، باستثناء مبحث الكناية الذي تناوله في كتابه الثاني «دلائل الإعجاز".
وأثناء تناوله هذه المباحث البلا غية بالدرس والتحليل ،معرفا ومحللا ومعلقا ومقدما نما ذج وأمثلة من منظوم الكلام ومنثوره ، بطريقة مستفيضة لكل منهما ،فان اللافت للنظر ،أنه كان يتناولها ضمن رؤية نسقية شمولية ومتكاملة، يستحضر فيها طرفي العملية الإبداعية أو التواصلية وهما :المتكلم والسامع، أي الكاتب أو المبدع عموما ، والسامع أو القارئ والمتلقي، حيث لا تغيب عن تصوره هذه العناصر الثلاثة التي تعتمد عليها العملية الإبداعية وهي= المبدع+ العمل الإبداعي +السامع أو القارئ ،مما ينم عن سعة تصوره وعمق تفكيره ،ويضع أعماله في صلب النظريات النقدية الحديثة ،مثل النظرية اللسانية ، والنظرية الدلالية، ونظرية التلقي ، الشيء الذي يؤكد أنه كان سابقا لعصره ،متميزا ببعد نظره ،وأن النقاد المحدثين يدينون له بكثير من الأفكار والحقائق التي سبقهم اليها، وان لم يصرحوا بذلك ويقروا به، خاصة الغربيين منهم.
فمن مزايا الاستعارة وفضائلها عند عبد القاهر الجرجاني ، والتشبيه كذلك ،على اعتبار أن الاستعارة فرع عنه ،هي تطوير البيان وتجديده ، واطالة أمده بضخ دماء جديدة في شرايينه، فضلا عن الرفع من شأنه وسمو قدره ،يقول :(ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا ،وانك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد ،حتى تراها مكررة في مواضع. ولها في كل واحدة من تلك المواضع شأن مفرد ، وشرف منفرد ،وفضيلة مرموقة ،وخِلابة موموقة...)1.فبفضلها أيضا يقتصد في اللفظ ،ويتجنب الإطناب، ويصاب من المعاني والأغراض والدلالات الشيء الكثير، يقول بهذا الصدد:( الاستعارة تعطيك المعاني الكثيرة باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر)2.
وان المعنى كلما جاء ممثلا ، وتفنن الكاتب في ابداعه وصياغته ، كلما أرغم القارئ أو السامع على بذل الجهد في ادراكه ،وتحريك طاقاته من أجل التقاطه والإمساك به، وبعد نيله واحرازه ،وكشف النقاب عنه ،يكون نيله أحلى وألطف وأمتع ،وأثره ووقعه في النفس أطيب ، وبالذاكرة ألصق وأرسخ ،وهو ما يقصده بقوله :(...وهو أن المعنى اذا أتاك ممثلا فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك الى طلبه بالفكرة ،وتحريك الخاطر له ،والهمة في طلبه ،وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، واباؤه أظهر، واحتجاجه أشد ،ومن المركوز في الطبع أن الشيء اذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق اليه، و معاناة الحنين نحوه ، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى ، فكان موقعه في النفس أجل وألطف )3.
غير أن المعاني لا ينبغي أن يقصد فيها الى التعقيد والتعمية والتعمد ،من قبل الكاتب في نظر الجرجاني ،وهو يقصد بغموض المعنى، وخفائه وبعده، أن يزيده شرفا وفضلا ومزية ،في وقت نجد العكس ،حيث لا يزيد ذلك للمعنى الا رداءة وحقارة ووضاعة ،فالإساءة الى المعنى، بأي شكل من الأشكال، خط أحمر بالنسبة لعبد القاهر الجرجاني ، فللمعنى عنده حرمة لا تنتهك، وشرف لا يجب مسه بالسوء، ولا غرابة في ذلك ،اذا علمنا أنه من أ نصار المعنى
في فترة تعج فيها الساحة النقدية والأدبية بأنصار اللفظ والمدافعين عنه.
وحول هذا المعنى نجده يقول :(...فاذا قلت : فيجب على هذا المعنى أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضا مشرفا له وزائدا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس ، ألا تراهم قالوا :" ان خير الكلام ما كان معناه
الى قلبك أسبق من لفظه الى سمعك " 4.فالمعنى يقتضي للكشف عنه وابرازه ، ما يقابله ويعادله من الجهد والفكر، وما لا إسراف فيه من البحث والنظر والتفكير والتنقيب ،من دون السقوط في هدر للطاقات ، وإضاعة للجهد والفكر، مما يرهق السامع أو القارئ ، ويرفع بالتالي من تكلفة ثمن المعنى وعملية البحث عنه دون طائل ،ويشير الى هذا المعنى بقوله :(...لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب وانما أردت الحد الذي يحتاج اليه..)5.
ومنه قوله كذلك في موضع آخر من كتابه:(فانك تعلم أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك الا أن تشقه عنه ، وكالعزيز المحتجب لايريك وجهه حتى يستأذن عليه)6.
ومنه قوله كذلك في موضع آخر من كتابه:(فانك تعلم أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك الا أن تشقه عنه ، وكالعزيز المحتجب لايريك وجهه حتى يستأذن عليه)6.
فليس كل سامع أو قارئ أهلا، وتتوفر فيه الشروط الضرورية ، من مواصفات علمية ومعرفية لينقب عن ذلك المعنى ويكشف عنه، فلابد أن يكون له من الذكاء والفطنة والمراس والخبرة ،ما يمكنه من شق تلك الصدف عن الجواهر، وازالة الستار عن المعاني الخفية والدلالات العميقة والبعيدة، وهو ما عبر عنه الجرجاني بقوله :( ثم ما كل فكر يهتدي الى وجه الكشف عما اشتمل عليه ،ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول اليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة ،ويكون في ذلك من اهل المعرفة)7.
وتعود أسباب هذا التعقيد والغموض والتعتيم – في نظره- الى خلل وعوارفي "النظم "،أي الى سوء الترتيب في اللفظ وخلل في التركيب يتعمده الكاتب ، أو الشاعر ويقصد اليه قصدا ، ويجري كلامه عليه ، فيسيئ الى المعنى والباحث عن المعنى معا في الآن نفسه. هناك اذاً نية وقصد مسبق من قبل المتكلم ، من أجل أن يعقد مأمورية الكشف عن المعنى ، ووضع ألغام في الطريق المؤدي اليها ،غير أنه ،ليس كل أنواع التعقيد مرفوضة عنده ، بل هناك نوع من التعقيد الممدوح في نظره، وهو ما طلبه المعنى وقاد اليه المتكلم أو الكاتب، ذلك أن الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها في رأيه،
فاستهداف الغموض والسعي اليه ، من غير أن يستدعي المعنى ذلك ،يسقط المتكلم في التكلف والتصنع ، ويلقي به خارج دائرة الطبع والمألوف ،يقول الجرجاني بهذا الصدد:( وأما التعقيد فإنما كان مذموما لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي يمثله تحصل الدلالة على الغرض حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة ويسعى اليه من غير الطريق كقوله :
ولدا اسم أغطية العيون جفـــونـــهـــا من أنهــــا عــمل السيوف عوامـــل
وانما ذم هذا الجنس لأنه أحوجك الى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله ،وكدك بسوء الدلالة ،وأ ودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس، بل خشن مضرس، حتى اذا رمت اخراجه منك عسر عليك ،واذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحسن)8.
وتتجلى مسؤولية المتكلم أو الكاتب عنده ،في أن عليه أن يتحاشى في كلامه أو كتابته ، كل ما قد يخل بالمعنى ويفسده، بسبب وعطب وتشويه في النظم أو التركيب ، يقول موضحا هذه الفكرة :(فإنما أرادوا بقولهم :"ما كان معناه الى قلبك أسبق من لفظه الى سمعك " أن يجتهد المتكلم في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخل بالدلالة ،وعاق دون الإبانة ،ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلا ما يتراجعه الصبيان، ويتكلم به العامة في السوق)9.
وعلى هذا الأساس ، فان مسؤولية عدم فهم المعنى والعجز عن ادراكه ، بعد اعمال الفكر والنظر ،تقع على المتكلم أو الكاتب ،وليس الى تقصير من جانب السامع أو المتلقي ،بل الى ما يقصد اليه المبدع من اخفاء المعنى ، وضرب أسوار عالية من التعقيدات اللفظية والمعنوية ،واقامة سياج شائك حوله ، الشيء الذي يجعل عملية الظفر به، والاهتداء اليه يتسم بصعوبة بالغة ،ذلك ما قصده الجرجاني عندما قال:(هذا المعقد من الشعر والكلام لم يذم لأنه مما تقع حاجة فيه الى الفكر على الجملة ،بل لأن صاحبه يعثر فكرك في متصرفه ،ويشيك طريقك الى المعنى ،ويوعر مذهبك نحوه ، بل ربما قسم فكرك ، وشعب ظنك، حتى لا تدري من أين تتوصل وكيف تطلب؟)10.
وهكذا، نجد أنه كلما أمعن في الإغراب وابعاد المعاني واخفائها ، عن طريق خرق ضوابط وقوانين النظم والتأليف وقواعده ، يسيئ اليها والى السامع أيضا ، وعبرهما يضر بعملية الفهم والإفهام ، التي هي مدار العملية التواصلية التي تتطلب جملة من الشروط ، لابد من مراعاتها ، ضمانا لنجاح العملية التواصلية ،القائمة على الدوام بين البدع والمتلقي من خلال العمل الإبداعي ،شروط سبق للجاحظ أن أشار اليها في كتابه "البيان والتبيين" ،قبل الجرجاني ،وان لم يخصص لها فصلا أو مبحثا في مؤلفه ، وانما وردت لما ما ،وبشكل متناثر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق