من كتاب أسرار البلاغة
ظل عبد القاهر الجرجاني في نظر الجميع إماما مجتهدا مبرزا، وما كتبه الجرجاني سوف يبقى سراجا منيرا لكل من يسر الله له الإخلاص والهمة والسعي المبصر في طلب الكشف عن بلاغة.
يعد الجرجاني المجاز والتشبيه والكناية الأسس التي يقوم عليها الإعجاز، بل هي الأركان التي تنبني عليها، ولذلك يهتم في كتابه "أسرار البلاغة" بالتشبيه بأنواعه والاستعارة بأضربها، والمجاز بأقسامه، باستثناء مبحث الكناية الذي تناوله في كتابه الثاني "دلائل الإعجاز".
تناول المؤلف المباحث البلاغية بالدرس والتحليل، معرفا محللا ومعلقا ومقدما نماذج وأمثلة من منظوم الكلام ومنثوره بطريقة مستفيضة ضمن رؤية نسقية شمولية، يستحضر فيها طرفي العملية الإبداعية والتواصلية؛ وهما المتكلم والسامع/القارئ؛ حيث لا تغيب عن تصوره هذه العناصر الثلاثة التي يعتمد عليها في العملية الإبداعية وهي: المبدع +العمل الإبداعي +السامع أو القارئ، الشيء الذي يؤكد أنه كان سابقا لعصره، متميّزا ببعد نظره، وأن النقاد المحدثين يدينون له بالكثير من الأفكار والحقائق التي سبقهم إليها، وإن لم يصرحوا بذلك ويقروا به.
مزايا الاستعارة والتشبيه وفضائلهما عند الجرجاني: اعتبار الاستعارة فرع، إذ تطوّر البيان وتجدده، وفي ذلك يقول:
"ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدا في صورة مستجدة، تزيد القدرة نيلا، وتوجب له بعد الفضل فضلا، وإنك لتجد اللفظة قد اكتسبت فيها فوائد، حتى تراها مكررة في مواضع، ولها في كل واحدة من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة".
بفضل الاستعارة يقتصد باللفظ، ويتجنب الإطناب، ويصاب من المعاني والأغراض والدلالات الشيء الكثير، يقول بهذا الصدد.
"الاستعارة تعطيك المعاني الكثيرة بالتيسير من اللفظ، حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من درر، وتجني من الغصن الواحد أنواع من الثمر".
ويضيف: المعنى كلما جاء ممثلا، وتفنن الكاتب في إبداعه وصياغته، كلما أرغم القارئ أو السامع على بذل الجهد في إدراكه وتحريم طاقته من أجل التقاطه والإمساك به، وبعد نيله وإحرازه وكشف النقاب عنه، يكون نيله أحلى وأمتع، وأثره ووقعه في النفس أطيب، وبالذاكرة ارسخ وألصق. قصد القول "هو أن المعنى إذا أتاك ممثلا فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحرك الخاطر والهمة في طلبه".
الغموض
يقصد بالغموض المعنى وإخفائه وبعده يزيده شرفا وفضلا ومزية، والإساءة إلى المعنى بأي شكل من الأشكال خط أحمر بالنسبة للجرجاني، فللمعنى عنده حرمة لا تنتهك، إذا علمنا أنه من أنصار المعنى في فترة تعج فيها الساحة النقدية والأدبية بأنصار اللفظ والمدافعين عنه.
الاختلاف بشأن غموض المعنى
تجد الناس يقولون إن خير الكلام ما كان معناه. بالمعنى يقتضي -للكشف عنه وإبرازه- ما يقابله وما يعادله من الجهد والفكر، وما لا إسراف فيه من البحث والنظر والتفكير والتنقيب، من دون سقوط وإضاعة للجهد والفكر، مما يرهق السامع أو القارئ ويرفع بالتالي من تكلفة ثمن المعنى وعملية البحث عنه دون طائل، يشير بقوله:
"لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردنا الحد الذي يحتاج إليه"، ومنه قوله: "فإنك تعلم أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدق لا يبرز لك أن تشق عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى يستأذن عليه، فليس كل سامع أو قارئ أهلا، وتتوفر فيه شروط ضرورية من المواصفات العلمية والمعرفية لينقب عن شروط المعنى ويكشف عنه، فلا بدّ أن يكون له من الذكاء والفطنة وإزالة الستار عن المعاني الخفية والدلالات العميقة والبعيدة، وهذا ما عبر عنه الجرجاني بقوله:
"ثم كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة ويكون في ذلك من أهل المعرفة".
تعود هذه الأسباب إلى خلل في النظم؛ أي إلى سوء الترتيب في اللفظ، وخلل في التركيب يتعمده الكاتب أو الشاعر ويقصد إليه قصدا، ويجزى كلامه عليه فيسيء إلى المعنى والباحث عن المعنى معا في الآن نفسه من قبل المتكلم من أجل أن يعقد مأمورية الكشف عن المعنى، ووضع ألغام في الطريق المؤدي إليها، غير أنه ليس كل أنواع التعقيد عنده مرفوضة؛ بل هناك نوع من التعقيد الممدوح في نظره وهو ما طلبه المعنى وقاد إليه المتكلم أو الكاتب، ذلك أن الألفاظ تابعة للمعاني وخادمة لها في رأيه، فاستخدم الغموض وسعى إليه من غير أن يستدعي المعنى ذلك يسقط المتكلم في التكلف والتصنع ويلقي به خارج دائرة الطبع.
تتجلى مسؤولية المتكلم أو الكاتب عنده في أن عليه أن يتحاشى في كلامه أو كتابته كل ما قد يخل بالمعنى ويفسده بسبب وعطب وتشويه في النظم أو التركيب، وعلى هذا الأساس فإن مسؤولية عدم فهم المعنى والعجز عن إدراكه بعد إعمال الفكر والنظر، تقع على المتكلم أو الكاتب وليس إلى تقصير من جانب السامع أو المتلقي؛ بل إلى ما يقصد إليه المبدع من إخفاء المعنى، وضرب أسوار عالية من التعقيدات اللفظية والمعنوية، الشيء الذي يجعل عملية الاهتداء إليه تتسم بصعوبة بالغة؛ ذلك ما قصده الجرجاني.
إن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبين مراتبها، ويكشف عن ضوئها، ويبرز المكنون من ضمائرها، وبه أبان الله الإنسان عن سائر الحيوان، فلولاه لتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها. ولولا الأضداد لما عرف الكفر من الإيمان، والإساءة من الإحسان، ولما ظهر الفرق بين المدح والتزيين والذم والتهجين.
التجنيس
أما التجنيس فإنه لا يستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان وقع معانيها من العقل موقعا حميدا، ولم يكن المرمى الجامع بينهما مرمى بعيدا. وقد استحسن تجنيس القائل "حتى نجا من خوفه وما نجا".
أن المعاني لا تدين في كل موضع كما يجذبها التجنيس إليه. إذن الألفاظ تخدم المعاني والمصرفية في حكمها وكانت المعاني هي المالكة سياستها، فمن نظر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته وذلك مظنه الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع، أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح المراد، وأسلم عن التفاوت، وأكشف عن الأغراض وأنصر للجهة التي تنحو نحو العقل. والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع فإنها تروي وتتناقل، والأشعار محلها النشيب من الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه إلا الاحتفال في الصنعة ودلالة على مقدار شوط القريحة، والإخبار عن فضل القوة والاقتدار على التفنن في الصنعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق