رمى الجمرات
الجمرات في الحجّ لفظ الجمرات جمعٌ مفردها (جمرةٌ)، ويُراد بها: الأحجار الصغيرة، ويُطلَق لفظ الجمرات أيضاً على المَوضع الذي تُقذَف فيه تلك الحجارة في مِنى، وسُمِّيت بذلك؛ لأنّها تُرمى وتُقذَف بالحجارة، أو لأنّ الحجارة تجتمع فيها، أو لأنّ الحُجّاج يجتمعون عندها،
[١] ويبلغ عدد الجمرات ثلاثاً؛ أولاها: الجمرة الصُّغرى، ويُقال لها: الدُّنيا، وسُمِّيت بذلك؛ لأنّها أقرب الجَمرات وأدناها إلى مسجد الخِيف، وثانيها: الجمرة الوُسطى، وثالثها: الجمرة الكُبرى، ويُقال لها: جمرة العقبة، وتقع في آخر مِنى باتّجاه مكّة.
[٢] وتجدر الإشارة إلى أنّ مشروعيّة رَمْي الجمرات تعود إلى عهد نبيّ الله إبراهيم -عليه السلام-؛ وذلك حين جاءه جبريل -عليه السلام-، وأراه مناسك الحجّ، وقَدِمَا إلى موضع جمرة العقبة، فاعترضهما الشيطان، فأخذ جبريل -عليه السلام- سبع حَصَياتٍ، وأعطى مِثلهنّ لإبراهيم -عليه السلام-، فرَمياه بها، وكبّرا في كلّ مرّةٍ، وكرّر إبراهيم الرَّمْي عند الجمرات الأخرى، كما ورد عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-:
(لمَّا أَتَى إبراهيمُ خَلِيلُ اللهِ المَناسِكَ عرضَ لهُ الشَّيْطَانُ عندَ جَمْرَةِ العقبةَ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ، ثُمَّ عرضَ لهُ عندَ الجمرةِ الثانيةِ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ، ثُمَّ عرضَ لهُ عِنْدِ الجمرةِ الثالثةِ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ. قال ابْنُ عباسٍ: الشيطانَ تَرْجُمُونِ، ومِلَّةَ أَبيكُمْ إبراهيمَ تَتَّبِعُونَ).
[٣][٤] كيفيّة رَمْي الجمرات في الحجّ يبدأ الحاجّ رَمْي الجمرات بإمساك الجمرة بيده اليُمنى، رافعاً ذراعه، ويُكبّر عند رَمْي كلّ جمرةٍ، ويقف جاعلاً مكّة عن يساره، ومِنى عن يمينه، ثمّ يستقبل القِبلة بعد الرَّمْي؛ فيدعو الله، ويذكرُه، ويُهلّل، ويُسبّح، وذلك بعد رَمْي الجمرة الصُّغرى، والجمرة الوُسطى، أمّا جمرة العقبة فلا يفعل ذلك بعد رَمْيها، ويجوز للحاجّ رَمْي الجمرات راكباً، أو راجلاً على قدمَيه، وذلك عند جمهور العلماء من الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، أمّا الشافعيّة فقالوا برَمْيها راجلاً، ويُسَنّ الرَّمْي ركوباً إن كان الحاجّ مُستعدّاً للنَّفْر بَعده، وتجدر الإشارة إلى أنّ التلبية تنقطع بمُجرَّد رَمْي جمرة العقبة بأوّل حصاةٍ عند الجمهور من الشافعيّة، والحنفيّة، والحنابلة، أمّا المالكيّة فقالوا بقَطْع التلبية من ظُهْر يوم عرفة.
[٥] شروط رَمْي الجمرات بيّن العلماء ما يُشترَط على الحاجّ في رَمْي الجمرات، وبيان تلك الشروط وتفصيلها فيما يأتي:
[٦] الإحرام بالحجّ: فالإحرام بالحجّ شرط صحّةٍ لكلّ أعمال الحجّ.
الوقوف بعرفة: إذ يُشترَط لصحّة الرَّمْي الوقوف بعرفة قَبْله؛ فالرَّمْي يترتّب على عرفة؛ ذلك أنّ عرفة رُكن الحجّ الذي لا يتمّ الحجّ إلّا به.
الرَّمْي بالحجارة: وقد اختلف العلماء فيما يصحّ الرَّمْي به، وما لا يصحّ، وذهبوا في ذلك إلى قولَين، بيانهما آتياً: القول الأوّل:
قال جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة بعدم صحّة الرَّمْي بغير الحجارة، مثل: المعدن، أو الطين، وصحّة الرَّمْي بما يُعَدّ حَجَراً، كالمَرمَر، وقال الشافعيّة بصحّة الرَّمْي بحجر الحديد، والأحجار الكريمة
مثل: الفيروز، والياقوت، والعقيق، والزمرُّد، والبلّور، والزبرجد، وقد استدلّوا على شرط صحّة الرَّمْي بالحجارة بِما ورد في السنّة النبويّة من فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد ورد عن الصحابيّ عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- في وصف رَمْي النبيّ -عليه الصلاة والسلام-:
(كانَ إذَا رَمَى الجَمْرَةَ الَّتي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّما رَمَى بحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أمَامَهَا، فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وكانَ يُطِيلُ الوُقُوفَ)،
[٧] فيُستدلّ من الحديث أنّ الرَّمْي يكون بالحصى.
القول الثاني: خالف الحنفيّة جمهور العلماء؛ حينما ذهبوا إلى صحّة الرَّمْي بكلّ ما يرجع في أصله إلى الأرض، مثل:
الطين، والتراب، والزمرُّد، والزبرجد، والكبريت، ولا يصحّ الرَّمْي بالمعادن، والذهب، والفضة؛ وقد استدلّوا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال لرجلٍ: (ارْمِ وَلَا حَرَجَ)
[٨] فالأمر مُطلَقٌ، ولم يتقيّد بشيءٍ، وإنّما قد يُقصَد بتقييد الرَّمْي بالحصى في بعض الروايات أفضليّة ذلك دون اشتراطه لصحّة الرَّمْي، كما ذهب إلى ذلك الكاسانيّ؛ توفيقاً بين الأدلّة المُطلَقة والمُقيّدة، وقالوا بمَنع الرَّمْي بالذهب والفضّة؛ لأنّ الرَّمْي بهما لا يُعَدّ رَمياً كحال الرَّمْي بالطين، ونحوه، وإنّما يُعَدّ نَثْراً، وذهب الإمام الحنفيّ الكمال بن الهُمام إلى أنّ مسألة الرَّمْي من الأمور التعبُّدية التي يُترك البحث عن العلّة فيها، وأنّ مدار آراء العلماء في تلك المسألة يتمحور حول ثلاثة معانٍ؛ فإمّا أنّ تكون النصوص دالّةً على مُطلَق الرَّمي، فيجوز بناءً على ذلك الرَّمْي بالمعادن الثمينة، وإمّا أن تدلّ على الاستهانة والامتهان، فيجوز بناءً على ذلك الرَّمْي بأيّ شيءٍ لا اعتبار له من جهة القِيمة، وإمّا أن تدلّ النصوص على ما ورد من فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالرَّمْي بالحصى، فيكون الأصل الالتزام بما ورد في السنّة ما لم يرد الدليل على خِلاف ذلك.
التتابُع والتفريق في رَمْي الحصيات: إذ تُرمى الحَصَيات واحدةً واحدةً؛ فلا يصحّ رَمْي جمرتَين، أو أكثر مرّةً واحدةً، وإن وقع فالجمرَتان عن واحدةٍ؛ اتِّباعاً لِما ورد في السنّة النبويّة من التتابُع والتفريق في رَمْي الجمرات.
وقوع الحصيات في حَوْض الجمرة: إذ يُشترَط رَمْي الجمرات وإصابتها في مكان اجتماع الحَصَيات عند الجمرة، ولا تُجزئ الحصاة إن رُمِيت خارج الحوض كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، أمّا الحنفيّة فقالوا بجواز رَمْي الحصى قريباً من الجمرة وإن لم تقع في مَجمع الحصى، بحيث لا يُمكن الاحتراز؛ بأن تكون المسافة قصيرةً، أمّا إن كانت كبيرةً، فلا يصحّ الرَّمْي.
قَصْد إصابة الجمرة: فإن وصلت الحصاة إلى الجمرة من غير قَصْدٍ، فلا تُعَدّ من الحصيات، ولا تُجزِئ؛ إذ لا بُدّ للحاجّ من أن يقصد إصابة الجمرة حين رَمْي الحصيات، كما يُشترَط أن يكون رَمْي الحصى دون مُعاونة أحدٍ؛ فمَن رمى حصاةً فأصابت ثوب رجلٍ، فردَّها عن ثوبه، فوقعت في حوض الجمرة، لم يُجزِئه ذلك؛ لأنّها وقعت بمُعاونة غيره.
الترتيب في رَمْي الجمرات في أيّام التشريق: اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك؛ فيبدأ الحاجّ برَمْي الجمرة الصُّغرى التي تَلي مسجد الخيف، ثمّ يرمي الجمرة الوُسطى، ثمّ يتوجّه أخيراً إلى جمرة العقبة؛ فإن بدأ بخلاف الصُّغرى، وجبت عليه الإعادة من جديدٍ كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة؛ إذ ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في صِفة رَمْي الجمرات: (أنَّه كانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ علَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، ويقومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ويقومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِن بَطْنِ الوَادِي، ولَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فيَقولُ هَكَذَا رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَفْعَلُهُ)
[٩] بينما خالف الحنفيّة الجمهور؛ إذ اعتبروا الترتيب في رَمْي الجمرات سُنّةً، وليس شرطَ صحّةٍ؛ فمن أخلّ بالترتيب تُسَنّ له الإعادة ولا تَجِب.
سُنَن رَمْي الجمرات يُستحسَن للحاجّ الإتيان بسُنَن رَمْي الجمرات، وهي:
[١٠] الإسراع في رَمْي جمرة العقبة يوم النَّحر فَوْر الوصول إلى مِنى.
رَمْي الجمرات في أيّام التشريق بعد زوال الشمس*.
عدم الفَصْل بين رَمْي حصيات الجمرة الواحدة، وعدم الفَصْل أيضاً بين كلّ جمرةٍ وأخرى إلّا لعُذرٍ ما.
التأكُّد من رَمْي الحصيات في الجمرة مباشرةً.
رَمْي الجمرة الصُّغرى بجَعْل مكّة إلى اليمين، ومِنى إلى اليسار، ثمّ جَعْل مكّة إلى اليسار، ومِنى إلى اليمين حين رَمْي جمرة العقبة، والجمرة الوُسطى.
الوقوف، واستقبال القبلة، والدعاء حين الانتهاء من رَمْي الجمرة الصُّغرى، والجمرة الوُسطى، دون جمرة العقبة.
رَمْي كلّ حصاةٍ برؤوس أصابع اليد اليُمنى، مع التكبير عند رَمْي كلّ حصاةٍ.
تخيُّر الحصى الطاهرة التي لم تُصَب بنجاسةٍ، والتي لم يُرمَ بها مَن قَبل، وأن يكون حجمها أكبر من حبّة الحمّص بقليلٍ.
حُكم رَمْي الجمرات في الحجّ رَمْي الجمرات واجبٌ من واجبات فريضة الحجّ، وتترتّب الفِدية بسبب تَركه،[١١] وتَرْك الرَّمْي يتفرّع إلى ثلاث صُورٍ، بيانها آتياً:[١٢] الصورة الأولى: تَرْك رَمْي الجمرات كلّها؛ سواء سَهواً، أو قصداً، وتترتّب على ذلك الفِدية باتّفاق أهل العلم.
الصورة الثانية: تَرْك رَمْي جمرةٍ أو أكثر، وقد فصّل العلماء في تلك الحالة؛ فقال الحنفيّة بوجوب الصدقة على مَن تَرك رَمْي جمرةٍ واحدةٍ من الجِمار الثلاث؛ واستدلّوا على ذلك بأنّ رَمْي الجمرات الثلاث يُعَدّ نُسكاً واحداً؛ فتَرْك واحدة يُجبَر بالصدقة، بينما تَجِب الفِدية على مَن تَركَ أكثر من نصف الجَمرات؛ باعتبار تَرْك الأكثر، كما تَجِب الفِدية على من أخَّرَ رَمْي أكثر الجَمرات إلى اليوم التالي؛ لتأخُّره عن وقتها، وقال محمد وأبو يوسف بعدم وجوب الفِدية، بينما قال المالكيّة والحنابلة بترتُّب الفدية على مَن تَرك رَمْي جمرةٍ أو أكثر، وقال المالكيّة بوجوبها أيضاً بسبب تأخير الرَّمْي إلى الليل؛ فوقت الرَّمْي نهاراً لا ليلاً، وقال الشافعيّة بترتُّب الفِدية على مَن تَرك الرَّمْي يوم النَّحر، أو يوماً من أيّام التشريق، وترتُّب الصدقة بتَرْك رَمْي جمرةٍ من الجَمرات الثلاث أيّام التشريق، وتُضاعَف إن تُرِك رَمْي جمرتَين.
الصورة الثالثة: تَرك رَمْي حصاةٍ أو أكثر من حَصيات كلّ جمرةٍ؛ إذ تترتّب الصدقة بسبب ذلك كما قال جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنفيّة، والحنابلة، أمّا المالكيّة فقالوا بترتُّب الفِدية بسبب تَرْك رَمْي حصاةٍ أو أكثر.
عدد الجمرات في الحجّ يبلغ عدد الحَصَيات التي يرميها الحاجّ يوم النَّحر، وأيّام التشريق الثلاثة؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، سبعينَ حصاةً؛ حيث يرمي جمرة العقبة يوم النَّحر بسبع حَصَياتٍ، ثمّ يرمي إحدى وعشرين حصاةً في كلّ يومٍ من أيّام التشريق؛ فالجمرات ثلاث، وتُرمى كلّ واحدةٍ منها بسبع حصياتٍ؛ ليكون مجموع الحصيات في كلّ يومٍ إحدى وعشرين، وسبعينَ بمجموع أيّام التشريق، فإن تعجّل الحاجّ وترك الرَّمْي في اليوم الثالث عشر، يكون قد رمى تسعاً وأربعين، ويُجزِئ ذلك؛ قال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّـهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
[١٣][١٤] وقت رَمْي الجمرات يبدأ وقت رَمي جمرة العقبة يوم النَّحر من منتصف ليلة النَّحر عند الشافعيّة والحنابلة، ومن طلوع الفجر عند الحنفيّة والمالكيّة، والسنّة أن يكون الرَّمْي بعد طلوع الشمس، ويمتدّ الوقت إلى ما قَبل غروب الشمس، ويُكرَه بَعده إلّا لعُذرٍ ما، أمّا وقت رَمْي الجمرات أيّام التشريق، فيبدأ من بعد الظُّهر باتِّفاق العلماء، وإن أُخِّر الرَّمْي إلى الليل وقع قضاءً عند المالكيّة، وتَجِب الفدية بسبب ذلك، ويجوز عند الحنفيّة تأخير الرَّمي إلى الليل إلى ما قَبل طلوع الفجر، وأجاز الحنابلة للرُّعاة والسُّقاة الرَّمْيَ ليلاً أو نهاراً، وقالوا بعد إجزاء الرَّمْي إلّا نهاراً لغيرهم.
الجمرات في الحجّ لفظ الجمرات جمعٌ مفردها (جمرةٌ)، ويُراد بها: الأحجار الصغيرة، ويُطلَق لفظ الجمرات أيضاً على المَوضع الذي تُقذَف فيه تلك الحجارة في مِنى، وسُمِّيت بذلك؛ لأنّها تُرمى وتُقذَف بالحجارة، أو لأنّ الحجارة تجتمع فيها، أو لأنّ الحُجّاج يجتمعون عندها،
[١] ويبلغ عدد الجمرات ثلاثاً؛ أولاها: الجمرة الصُّغرى، ويُقال لها: الدُّنيا، وسُمِّيت بذلك؛ لأنّها أقرب الجَمرات وأدناها إلى مسجد الخِيف، وثانيها: الجمرة الوُسطى، وثالثها: الجمرة الكُبرى، ويُقال لها: جمرة العقبة، وتقع في آخر مِنى باتّجاه مكّة.
[٢] وتجدر الإشارة إلى أنّ مشروعيّة رَمْي الجمرات تعود إلى عهد نبيّ الله إبراهيم -عليه السلام-؛ وذلك حين جاءه جبريل -عليه السلام-، وأراه مناسك الحجّ، وقَدِمَا إلى موضع جمرة العقبة، فاعترضهما الشيطان، فأخذ جبريل -عليه السلام- سبع حَصَياتٍ، وأعطى مِثلهنّ لإبراهيم -عليه السلام-، فرَمياه بها، وكبّرا في كلّ مرّةٍ، وكرّر إبراهيم الرَّمْي عند الجمرات الأخرى، كما ورد عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-:
(لمَّا أَتَى إبراهيمُ خَلِيلُ اللهِ المَناسِكَ عرضَ لهُ الشَّيْطَانُ عندَ جَمْرَةِ العقبةَ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ، ثُمَّ عرضَ لهُ عندَ الجمرةِ الثانيةِ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ، ثُمَّ عرضَ لهُ عِنْدِ الجمرةِ الثالثةِ، فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ. قال ابْنُ عباسٍ: الشيطانَ تَرْجُمُونِ، ومِلَّةَ أَبيكُمْ إبراهيمَ تَتَّبِعُونَ).
[٣][٤] كيفيّة رَمْي الجمرات في الحجّ يبدأ الحاجّ رَمْي الجمرات بإمساك الجمرة بيده اليُمنى، رافعاً ذراعه، ويُكبّر عند رَمْي كلّ جمرةٍ، ويقف جاعلاً مكّة عن يساره، ومِنى عن يمينه، ثمّ يستقبل القِبلة بعد الرَّمْي؛ فيدعو الله، ويذكرُه، ويُهلّل، ويُسبّح، وذلك بعد رَمْي الجمرة الصُّغرى، والجمرة الوُسطى، أمّا جمرة العقبة فلا يفعل ذلك بعد رَمْيها، ويجوز للحاجّ رَمْي الجمرات راكباً، أو راجلاً على قدمَيه، وذلك عند جمهور العلماء من الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، أمّا الشافعيّة فقالوا برَمْيها راجلاً، ويُسَنّ الرَّمْي ركوباً إن كان الحاجّ مُستعدّاً للنَّفْر بَعده، وتجدر الإشارة إلى أنّ التلبية تنقطع بمُجرَّد رَمْي جمرة العقبة بأوّل حصاةٍ عند الجمهور من الشافعيّة، والحنفيّة، والحنابلة، أمّا المالكيّة فقالوا بقَطْع التلبية من ظُهْر يوم عرفة.
[٥] شروط رَمْي الجمرات بيّن العلماء ما يُشترَط على الحاجّ في رَمْي الجمرات، وبيان تلك الشروط وتفصيلها فيما يأتي:
[٦] الإحرام بالحجّ: فالإحرام بالحجّ شرط صحّةٍ لكلّ أعمال الحجّ.
الوقوف بعرفة: إذ يُشترَط لصحّة الرَّمْي الوقوف بعرفة قَبْله؛ فالرَّمْي يترتّب على عرفة؛ ذلك أنّ عرفة رُكن الحجّ الذي لا يتمّ الحجّ إلّا به.
الرَّمْي بالحجارة: وقد اختلف العلماء فيما يصحّ الرَّمْي به، وما لا يصحّ، وذهبوا في ذلك إلى قولَين، بيانهما آتياً: القول الأوّل:
قال جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة بعدم صحّة الرَّمْي بغير الحجارة، مثل: المعدن، أو الطين، وصحّة الرَّمْي بما يُعَدّ حَجَراً، كالمَرمَر، وقال الشافعيّة بصحّة الرَّمْي بحجر الحديد، والأحجار الكريمة
مثل: الفيروز، والياقوت، والعقيق، والزمرُّد، والبلّور، والزبرجد، وقد استدلّوا على شرط صحّة الرَّمْي بالحجارة بِما ورد في السنّة النبويّة من فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد ورد عن الصحابيّ عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- في وصف رَمْي النبيّ -عليه الصلاة والسلام-:
(كانَ إذَا رَمَى الجَمْرَةَ الَّتي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّما رَمَى بحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أمَامَهَا، فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وكانَ يُطِيلُ الوُقُوفَ)،
[٧] فيُستدلّ من الحديث أنّ الرَّمْي يكون بالحصى.
القول الثاني: خالف الحنفيّة جمهور العلماء؛ حينما ذهبوا إلى صحّة الرَّمْي بكلّ ما يرجع في أصله إلى الأرض، مثل:
الطين، والتراب، والزمرُّد، والزبرجد، والكبريت، ولا يصحّ الرَّمْي بالمعادن، والذهب، والفضة؛ وقد استدلّوا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال لرجلٍ: (ارْمِ وَلَا حَرَجَ)
[٨] فالأمر مُطلَقٌ، ولم يتقيّد بشيءٍ، وإنّما قد يُقصَد بتقييد الرَّمْي بالحصى في بعض الروايات أفضليّة ذلك دون اشتراطه لصحّة الرَّمْي، كما ذهب إلى ذلك الكاسانيّ؛ توفيقاً بين الأدلّة المُطلَقة والمُقيّدة، وقالوا بمَنع الرَّمْي بالذهب والفضّة؛ لأنّ الرَّمْي بهما لا يُعَدّ رَمياً كحال الرَّمْي بالطين، ونحوه، وإنّما يُعَدّ نَثْراً، وذهب الإمام الحنفيّ الكمال بن الهُمام إلى أنّ مسألة الرَّمْي من الأمور التعبُّدية التي يُترك البحث عن العلّة فيها، وأنّ مدار آراء العلماء في تلك المسألة يتمحور حول ثلاثة معانٍ؛ فإمّا أنّ تكون النصوص دالّةً على مُطلَق الرَّمي، فيجوز بناءً على ذلك الرَّمْي بالمعادن الثمينة، وإمّا أن تدلّ على الاستهانة والامتهان، فيجوز بناءً على ذلك الرَّمْي بأيّ شيءٍ لا اعتبار له من جهة القِيمة، وإمّا أن تدلّ النصوص على ما ورد من فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالرَّمْي بالحصى، فيكون الأصل الالتزام بما ورد في السنّة ما لم يرد الدليل على خِلاف ذلك.
التتابُع والتفريق في رَمْي الحصيات: إذ تُرمى الحَصَيات واحدةً واحدةً؛ فلا يصحّ رَمْي جمرتَين، أو أكثر مرّةً واحدةً، وإن وقع فالجمرَتان عن واحدةٍ؛ اتِّباعاً لِما ورد في السنّة النبويّة من التتابُع والتفريق في رَمْي الجمرات.
وقوع الحصيات في حَوْض الجمرة: إذ يُشترَط رَمْي الجمرات وإصابتها في مكان اجتماع الحَصَيات عند الجمرة، ولا تُجزئ الحصاة إن رُمِيت خارج الحوض كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، أمّا الحنفيّة فقالوا بجواز رَمْي الحصى قريباً من الجمرة وإن لم تقع في مَجمع الحصى، بحيث لا يُمكن الاحتراز؛ بأن تكون المسافة قصيرةً، أمّا إن كانت كبيرةً، فلا يصحّ الرَّمْي.
قَصْد إصابة الجمرة: فإن وصلت الحصاة إلى الجمرة من غير قَصْدٍ، فلا تُعَدّ من الحصيات، ولا تُجزِئ؛ إذ لا بُدّ للحاجّ من أن يقصد إصابة الجمرة حين رَمْي الحصيات، كما يُشترَط أن يكون رَمْي الحصى دون مُعاونة أحدٍ؛ فمَن رمى حصاةً فأصابت ثوب رجلٍ، فردَّها عن ثوبه، فوقعت في حوض الجمرة، لم يُجزِئه ذلك؛ لأنّها وقعت بمُعاونة غيره.
الترتيب في رَمْي الجمرات في أيّام التشريق: اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام- في ذلك؛ فيبدأ الحاجّ برَمْي الجمرة الصُّغرى التي تَلي مسجد الخيف، ثمّ يرمي الجمرة الوُسطى، ثمّ يتوجّه أخيراً إلى جمرة العقبة؛ فإن بدأ بخلاف الصُّغرى، وجبت عليه الإعادة من جديدٍ كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة؛ إذ ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- في صِفة رَمْي الجمرات: (أنَّه كانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدُّنْيَا بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ علَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، ويقومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، ويَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ويقومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِن بَطْنِ الوَادِي، ولَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فيَقولُ هَكَذَا رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَفْعَلُهُ)
[٩] بينما خالف الحنفيّة الجمهور؛ إذ اعتبروا الترتيب في رَمْي الجمرات سُنّةً، وليس شرطَ صحّةٍ؛ فمن أخلّ بالترتيب تُسَنّ له الإعادة ولا تَجِب.
سُنَن رَمْي الجمرات يُستحسَن للحاجّ الإتيان بسُنَن رَمْي الجمرات، وهي:
[١٠] الإسراع في رَمْي جمرة العقبة يوم النَّحر فَوْر الوصول إلى مِنى.
رَمْي الجمرات في أيّام التشريق بعد زوال الشمس*.
عدم الفَصْل بين رَمْي حصيات الجمرة الواحدة، وعدم الفَصْل أيضاً بين كلّ جمرةٍ وأخرى إلّا لعُذرٍ ما.
التأكُّد من رَمْي الحصيات في الجمرة مباشرةً.
رَمْي الجمرة الصُّغرى بجَعْل مكّة إلى اليمين، ومِنى إلى اليسار، ثمّ جَعْل مكّة إلى اليسار، ومِنى إلى اليمين حين رَمْي جمرة العقبة، والجمرة الوُسطى.
الوقوف، واستقبال القبلة، والدعاء حين الانتهاء من رَمْي الجمرة الصُّغرى، والجمرة الوُسطى، دون جمرة العقبة.
رَمْي كلّ حصاةٍ برؤوس أصابع اليد اليُمنى، مع التكبير عند رَمْي كلّ حصاةٍ.
تخيُّر الحصى الطاهرة التي لم تُصَب بنجاسةٍ، والتي لم يُرمَ بها مَن قَبل، وأن يكون حجمها أكبر من حبّة الحمّص بقليلٍ.
حُكم رَمْي الجمرات في الحجّ رَمْي الجمرات واجبٌ من واجبات فريضة الحجّ، وتترتّب الفِدية بسبب تَركه،[١١] وتَرْك الرَّمْي يتفرّع إلى ثلاث صُورٍ، بيانها آتياً:[١٢] الصورة الأولى: تَرْك رَمْي الجمرات كلّها؛ سواء سَهواً، أو قصداً، وتترتّب على ذلك الفِدية باتّفاق أهل العلم.
الصورة الثانية: تَرْك رَمْي جمرةٍ أو أكثر، وقد فصّل العلماء في تلك الحالة؛ فقال الحنفيّة بوجوب الصدقة على مَن تَرك رَمْي جمرةٍ واحدةٍ من الجِمار الثلاث؛ واستدلّوا على ذلك بأنّ رَمْي الجمرات الثلاث يُعَدّ نُسكاً واحداً؛ فتَرْك واحدة يُجبَر بالصدقة، بينما تَجِب الفِدية على مَن تَركَ أكثر من نصف الجَمرات؛ باعتبار تَرْك الأكثر، كما تَجِب الفِدية على من أخَّرَ رَمْي أكثر الجَمرات إلى اليوم التالي؛ لتأخُّره عن وقتها، وقال محمد وأبو يوسف بعدم وجوب الفِدية، بينما قال المالكيّة والحنابلة بترتُّب الفدية على مَن تَرك رَمْي جمرةٍ أو أكثر، وقال المالكيّة بوجوبها أيضاً بسبب تأخير الرَّمْي إلى الليل؛ فوقت الرَّمْي نهاراً لا ليلاً، وقال الشافعيّة بترتُّب الفِدية على مَن تَرك الرَّمْي يوم النَّحر، أو يوماً من أيّام التشريق، وترتُّب الصدقة بتَرْك رَمْي جمرةٍ من الجَمرات الثلاث أيّام التشريق، وتُضاعَف إن تُرِك رَمْي جمرتَين.
الصورة الثالثة: تَرك رَمْي حصاةٍ أو أكثر من حَصيات كلّ جمرةٍ؛ إذ تترتّب الصدقة بسبب ذلك كما قال جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنفيّة، والحنابلة، أمّا المالكيّة فقالوا بترتُّب الفِدية بسبب تَرْك رَمْي حصاةٍ أو أكثر.
عدد الجمرات في الحجّ يبلغ عدد الحَصَيات التي يرميها الحاجّ يوم النَّحر، وأيّام التشريق الثلاثة؛ الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، سبعينَ حصاةً؛ حيث يرمي جمرة العقبة يوم النَّحر بسبع حَصَياتٍ، ثمّ يرمي إحدى وعشرين حصاةً في كلّ يومٍ من أيّام التشريق؛ فالجمرات ثلاث، وتُرمى كلّ واحدةٍ منها بسبع حصياتٍ؛ ليكون مجموع الحصيات في كلّ يومٍ إحدى وعشرين، وسبعينَ بمجموع أيّام التشريق، فإن تعجّل الحاجّ وترك الرَّمْي في اليوم الثالث عشر، يكون قد رمى تسعاً وأربعين، ويُجزِئ ذلك؛ قال -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّـهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
[١٣][١٤] وقت رَمْي الجمرات يبدأ وقت رَمي جمرة العقبة يوم النَّحر من منتصف ليلة النَّحر عند الشافعيّة والحنابلة، ومن طلوع الفجر عند الحنفيّة والمالكيّة، والسنّة أن يكون الرَّمْي بعد طلوع الشمس، ويمتدّ الوقت إلى ما قَبل غروب الشمس، ويُكرَه بَعده إلّا لعُذرٍ ما، أمّا وقت رَمْي الجمرات أيّام التشريق، فيبدأ من بعد الظُّهر باتِّفاق العلماء، وإن أُخِّر الرَّمْي إلى الليل وقع قضاءً عند المالكيّة، وتَجِب الفدية بسبب ذلك، ويجوز عند الحنفيّة تأخير الرَّمي إلى الليل إلى ما قَبل طلوع الفجر، وأجاز الحنابلة للرُّعاة والسُّقاة الرَّمْيَ ليلاً أو نهاراً، وقالوا بعد إجزاء الرَّمْي إلّا نهاراً لغيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق