حُكم الحجّ
الحجّ فريضةٌ من فرائض الإسلام، وأحد الأركان التي يقوم عليها، وقد ثبتت مشروعيّته في القرآن، والسنّة، والإجماع؛ فمِن النصوص الدالّة على وجوب الحجّ من كتاب الله: قَوْله -تعالى-: (وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)،[٢] وقَوْله -تعالى-: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ)
[٣] ومن السنّة النبويّة: قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ)
[٤] وممّا يدلّ على وجوب تلك العبادة مرّةً واحدةً في العُمر من السنّة النبويّة ما ورد عن الصحابيّ أبي هريرة -رضي الله عنه-: (خَطَبَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثَلَاثًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لو قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَما اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قالَ: ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيءٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَدَعُوهُ)، كما أجمع المسلمون على وجوب الحجّ على المسلم، البالغ، العاقل، الحُرّ، مرّةً واحدةً في العُمر حال توفُّر الاستطاعة، والقدرة على أدائها.
[٥][٦][٧] فَضْل الحجّ تترتّب على الحجّ العديد من الفضائل، والتي يُذكَر منها:
[٨] اعتبارها من أعظم الأعمال، والعبادات، وأحبّها إلى الله؛ ويدلّ على ذلك ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ).
[٩] نَيْل الأجر العظيم المُترتّب على أدائه؛ فهو من أعظم أسباب تحصيل الأُجور والحَسَنات، وتكفير الذنوب والخطايا، وسبيل دخول الجنّة، كما أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ)
[١٠] وقال أيضاً: (تابِعوا بين الحجِّ و العُمرةِ؛ فإنَّ متابعةً بينَهُما تَنفِي الفقرَ والذنوبَ، كما ينفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ).
[١١] الحكمة من مشروعيّة الحجّ بيّن الله -جلّ وعلا- الحكمة من مشروعيّة الحجّ بقَوْله: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)
[١٢] ومن المنافع المُترتِّبة على فريضة الحجّ: تقوية الإيمان في النفوس، وإظهار معاني الوحدة الإنسانيّة والإسلاميّة؛ باجتماع المسلمين من أقطار العالم جميعها على اختلاف ألوانهم، وأعراقهم؛ ليُؤدّوا شعائر الحجّ في صورةٍ تُجسِّد الوحدة الإسلامية، والتكاتُف الإنسانيّ في أبهى صُوره.
[١٣] أنواع الإحرام في الحجّ يُعرَّف الإحرام بأنّه: نيّة الدخول في نُسك الحجّ، أو العُمرة، ويتحقّق من الميقات المُحدَّد شَرعاً، ويُمكن للمسلم الذي يقصد الحجّ إلى بيت الله الحرام أن يعقدَ النيّة لذلك بثلاث صورٍ مُتنوّعةٍ؛ فإمّا أن يُفرد النيّة في الحجّ، أو يَقرنها مع العُمرة، أو يعقدَها لأداء العُمرة ثمّ الحجّ، وبيان كلٍّ منها فيما يأتي:
[١٤] الصورة الأولى: الإفراد بالحجّ؛ ويكون بعَقد النيّة على الحجّ فقط، وأداء مناسكه، وأعماله، فيقول الحاجّ: "لبّيك اللهمّ بحجٍّ".
الصورة الثانية: القِران بالحجّ؛ ويكون بعقد النيّة على أداء أعمال العُمرة والحج معاً، بقَوْل: "لبّيك اللهمّ حجّاً وعُمرةً"، بأداء نُسكٍ واحدٍ، أو بإدخال فريضة الحجّ على العُمرة قبل الطواف، ويكفي عند جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة الطواف والسَّعي مرّةً واحدةً عن الحجّ والعُمرة، بينما خالفهم الحنفيّة؛ فقالوا بالطواف والسَّعي مرّتين؛ مرّةً عن الحجّ، وأخرى عن العُمرة، مع اتّفاقهم على وجوب تقديم الهَدْي على الحاجّ القارن .
الصورة الثالثة: التمتُّع بالعُمرة إلى الحجّ؛ وتكون بعَقْد النيّة على أداء مناسك العُمرة أوّلاً، ثمّ أداء مناسك فريضة الحجّ؛ فيبدأ المُحرم بالعُمرة، ويُنهي مناسكها في أشهر الحجّ، ثمّ يتحلّل من عُمرته، ويمكث في مكّة وهو مُتحلّلٌ من إحرامه إلى أن يحين وقت الحجّ، فيُحرم به، ويُؤدّي أعماله، ونُسكه، على أن يكون ذلك في عامٍ واحدٍ، كما أجمع العلماء أيضاً على وجوب الهَدْي في حقّ الحاجّ المُتمتِّع.
أحكام الحجّ شروط الحجّ يُعرَّف الشرط في اللغة بأنّه: العلامة، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فهو: ما يترتّب على عدم تحقُّقه العدم، بينما لا يترتّب على تحقُّقه الوجود أو العدم، وللحجّ شروطٌ لا يتحقّق إلّا بها، بيانها آتياً:
[١٥] الإسلام: فلا يجب الحجّ إلّا على المسلم؛ ودليل ذلك قَوْله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هـذا وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنَّ اللَّـهَ عَليمٌ حَكيمٌ)
[١٦] ومن السنّة النبويّة ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ).
[١٧] العقل: فلا يجب الحجّ على المجنون؛ لأنّه فاقدٌ للعقل الذي يُعَدّ مناط التكليف؛ استدلالاً بقَوْل الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (رُفِعَ القلَمُ عن ثَلاثٍ، عنِ النَّائمِ حتَّى يستَيقظَ، وعنِ الصَّغيرِ حتَّى يَكْبرَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يعقلَ أو يُفيقَ).
[١٨] البلوغ والحُرّية: فلا يُطالَب الصبيّ بالحجّ، ولا يجب عليه إلّا بعد بلوغه، وإن أدّى الحجّ صحّ منه، ويجب عليه حجّ الفرض بعد بلوغه؛ يدلّ على ذلك قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (أيما صبيٍّ حجَّ، ثم بلغ الحِنْثَ، فعليه أن يحجَّ حجَّةً أخرى، وأيما أعرابيٍّ حجَّ ثم هاجر فعليه أن يحجَّ حجةً أخرى، وأيما عبدٍ حجَّ ثم أُعتِقَ، فعليه أن يحُجَّ حجَّةً أُخرى)
[١٩] ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى العبد. الاستطاعة والقدرة: وقد فسَّر العلماء الاستطاعة الواردة في قَوْل الله -تعالى-: (وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
[٢٠] بأنّها: امتلاك الزاد، والراحلة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وابن قدامة، والشافعيّ، وسعيد بن جُبير، بينما فسّرها عكرمة بالصحّة، وشرط الراحلة يتوجّب في حَقّ مَن يسكن بعيداً عن مكّة، أمّا من يستطيع الوصول إليها ماشياً، فلا تُشترَط في حقّه الراحلة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الحاجّ إمّا أن يكون قادراً بنفسه على أداء الحجّ، فحينئذٍ يجب في حقّه، وإمّا أن يكون عاجزاً عن أداء المناسك بنفسه، ولا يخلو عَجزه من حالتَين؛ فقد يكون العَجز مُؤقَّتاً، كأن يعتريه مرضٌ طارىءٌ يَمنعه من أداء مناسك الحجّ، مع رجاء الشفاء منه، ففي هذه الحالة يُؤجّل الحجّ إلى أن يَبرأ من مرضه، فإن أدركه الموت قبل توفُّر القدرة، فإنّه لا يُؤثَم بذلك، ويحجّ عنه غيره من ماله الذي تركه، وقد يعجز المسلم عن أداء المناسك عَجزاً دائماً؛ بسبب المرض المُزمن الذي لا يُرجى الشفاء منه، أو عدم قدرته على الركوب، فحينئذٍ لا يجب عليه أداء المناسك بنفسه، ويجوز له أن يُوكّل غيره لأدائها، وممّا يدلّ على ذلك ما ورد في السنّة النبويّة من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-:
(أنَّ امرأةً من خَثْعَمَ استفتتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حجَّةِ الوداعِ والفضلُ بنُ عباسٍ رديفُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ فريضةَ اللهِ في الحجِّ أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يستوي على الراحلةِ فهل يَقْضِي عنهُ أن أَحُجَّ عنهُ فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: نعم).
[٢١] وجود الزوج أو المُحرم للمرأة: فلا يجب الحجّ ولا يجوز للمرأة إلّا بتوفُّر المُحرم لها، فإن أدّت الحجّ أو العُمرة دون مُحرمٍ، صحّ ذلك منها، وسقطت عنها الفريضة، مع ترتُّب الإثم عليها؛ لمُخالفتها نصوص الشريعة التي تنهى عن سفر المرأة دون زوجٍ، أو مُحرمٍ؛ إذ أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ ليسَ معها حُرْمَةٌ).
[٢٢] أركان الحجّ يُشير معنى الرُّكن في اللغة إلى: الشيء القوّي الذي لا يصلح الأمر ولا يقوم دونه، ولذلك سُمِّيت أركان الحجّ؛ لأنّها أساس الحجّ، وما يقوم عليه؛ إذ لا يصلح ولا يقوم دونها، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فالركن هو:
ما كان جزءاً من ماهيّة الشيء، ولا يحصل تمامه إلّا بوجوده، فهو أمرٌ داخلٌ في ماهيّة الشيء
[٢٣] وأركان الحجّ عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة أربعةٌ، وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، والسَّعي، وطواف الزيارة، وأضاف الشافعيّة رُكنَين، هما: الترتيب بين تلك الأركان، والحَلْق أو التقصير، أمّا الحنفيّة فأركان الحجّ عندهم تنحصر في الوقوف بعرفة، والطواف، وتفصيل كلّ رُكنٍ فيما يأتي:
[٢٤] الإحرام بالحجّ: وهو رُكنٌ عند جمهور العلماء، وشرط صحّةٍ عند الحنفيّة، ويُراد بالإحرام: الدخول في عبادة الحجّ، وعَقْد النيّة على أداء مناسكه، ويتضمّن عند الحنفيّة النيّة والتلبية معاً، وتكون التلبية بقَوْل: "لبّيك اللهمّ".
الوقوف بعرفة: وهو من أهمّ أركان الحجّ؛ ويكون بوقوف الحاجّ وووجوده في أرض عرفة وِفق ما أَمرَت به الشريعة، وتكمُن أهميّته في أنّ فواته يترتّب عليه فَوات الحجّ كلّه، وتجب بذلك إعادة الحجّ في السنوات القادمة، وقد ثبتت رُكنيّة الوقوف بعرفة في القرآن، والسنّة، والإجماع؛ فمِنَ القرآن الكريم قَوْل الله -تعالى-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)
[٢٥] ومن السنّة النبويّة قَوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (الحجُّ عرفةَ فمَن أدرك ليلةَ عرفةَ قبل طلوعِ الفجرِ من ليلةِ جمعٍ فقد تمَّ حجُّهُ)
[٢٦] وقد أجمع العلماء على أنّ الوقوف بعرفة رُكنٌ من أركان الحجّ، بينما اختلفوا في ما يتعلّق بوقت الوقوف بعرفة، ومدّة الوقوف بعرفة، وتفصيل ذلك في ما يأتي:
وقت الوقوف بعرفة: اختلف العلماء فيه؛ فقال الحنابلة بأنّه يبدأ منذ طلوع فجر يوم عرفة وينتهي بطلوع فجر يوم النَّحر، أمّا المالكيّة فقالوا بأنّ الوقوف بعرفة يكون ليلاً، ومن تَرك الوقوف في أيّ جزءٍ من الليل فلا يكون قد أتى برُكن الوقوف، وتجب عليه إعادة الحجّ، وقالوا بأنّ تَرك الوقوف نهاراً تجب بسببه الفِدية وإن تُرِك عمداً دون عُذرٍ؛ باعتبار أنّ الوقوف نهاراً واجبٌ عند المالكيّة، أمّا الشافعيّة والحنفيّة فقالوا بأنّ وقت الوقوف بعرفة يبدأ منذ ظُهر يوم عرفة.
مدّة الوقوف بعرفة: وقد فصّل فيها العلماء؛ فقسّم الحنفيّة والحنابلة زمن الوقوف إلى زمنَين؛ الأوّل: زمن الرُّكن؛ وهو الزمن الذي تُؤدّى فيه فريضة الوقوف، ويكون بالوجود في عرفة ولو قليلاً زمان الوقوف
والثاني: الزمان الواجب؛ ويكون بالوقوف في عرفة منذ ظُهر يومه إلى غروب الشمس، وعدم مغادرة عرفة إلّا بعد الغروب ولو بلحظةٍ واحدةٍ؛ أي أن يجمع الحاجّ وقوفه بعرفة بين الليل والنهار، وقال المالكيّة بأنّ الوقوف في عرفة يكون ليلاً، أمّا الشافعيّة فقالوا بأنّه يُسَنّ الجَمع بين الليل والنهار في عرفة، ولا يجب الجَمع، ويُجزئ الوقوف بعرفة في أيّ وقتٍ من ظهر يومه إلى فجر يوم النَّحر.
طواف الزيارة أو طواف الإفاضة: وقد سُمِّي بهذين الاسمَين؛ لأنّ الحاجّ يأتي إلى مكّة المُكرَّمة، أو يفيض إليها من مِنى دون البقاء فيها، وقد دلّ على مشروعيّة الطواف قَوْله -تعالى-: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
[٢٧] ومن السنّة ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (حَاضَتْ صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ بَعْدَ ما أَفَاضَتْ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ حِيضَتَهَا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَحَابِسَتُنَا هي؟ قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّهَا قدْ كَانَتْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بالبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإفَاضَةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: فَلْتَنْفِرْ)
[٢٨] كما أجمع المسلمون على فرضيّته، ويُؤدّيه الحُجّاج يوم النَّحر بعد أدائهم مناسكَ الرَّمْي، والنَّحر، والحَلْق والتقصير؛ بالطواف سبعة أشواطٍ، بينما اعتبر الحنفيّة الرُّكن في الطواف أكثره؛ أي أربعة أشواطٍ، أمّا السبعة فهي من الواجبات التي تنجبر بالفِدية، ويجب عند جمهور العلماء من الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة الطواف مَشياً في حَقّ الحاجّ القادر عليه، كما يجب أداء ركعتَين بعد الطواف، بينما ذهب الشافعيّة إلى أنّ الطواف مَشياً، وأداء الركعتَين سُنّةً، ويُشترَط في طواف الزيارة الإحرام والوقوف بعرفة قبله؛ فلا يصحّ أيّ عملٍ من أعمال الحجّ دون إحرامٍ، ولا يصحّ الطواف أيضاً قبل الوقوف في عرفة بإجماع العلماء، ولم يشترط الشافعيّة، والحنفيّة، والمالكيّة تعيين نيّة الطواف؛ لدخول الطواف في نيّة الحَجّ بالمُجمَل، أمّا الحنابلة فاشترطوا تعيين نيّة طواف الزيارة، كما لا يصحّ الطواف قبل وقته المُحدَّد شرعاً، وقد حَدّده الحنفيّة، والمالكيّة من طلوع الفجر الثاني من يوم النَّحر، وقال الشافعيّة، والحنابلة بأنّ طواف الزيارة يبدأ من بعد منتصف ليلة النَّحر بشرط الوقوف في عرفة قبله.
السَّعي بين الصفا والمروة: حيث يطوف الحاجّ بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ بعد طواف الإفاضة، والسَّعي رُكنٌ من أركان الحجّ عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وواجبٌ عند الحنفيّة تترتّب الفِدية بتَرْكه، ويجب المَشي فيه للقادر عند الحنفيّة، والمالكيّة، ويُسَنّ عند الشافعيّة، والحنابلة. واجبات الحجّ الواجب لغةً:
من اللزوم والثبات، يُقال: وجبَ الأمر؛ أي أصبح لازماً ثابتاً، أمّا الواجب في الاصطلاح، فهو: ما يقتضيه الأمر، ويترتّب على أدائه الثواب والأجر، ويترتّب على تَرْكه العقاب والإثم، وأَمر الوجوب لا ينصرف من الأمر إلى الاستحباب إلّا بدليلٍ يصرفه إليه، أمّا واجبات الحجّ، فهي:
[٢٣][٢٩] الإحرام من الميقات: وهو المكان الذي جُعِل للإحرام بالحجّ والعُمرة؛ ودليل وجوب ذلك ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه من قَوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (هُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ).
[٣٠] المَبيت بمِنى: ويكون المَبيت فيها ليالي أيّام التشريق، وقد ثبت في السنّة النبويّة أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أذِن لعمّه العبّاس أن يبيت في مِنى للسقاية، كما ثبت في صحيح البخاريّ عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: (أنَّ العَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه اسْتَأْذَنَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِن أجْلِ سِقَايَتِهِ، فأذِنَ له)،
[٣١] ويكون المَبيت في مِنى ليالي التشريق الثلاث للمُتأخِّرين، وليلتيَن للمُتعجِّلين؛ ودليل مشروعيّة المَبيت بمِنى من القرآن الكريم قَوْله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّـهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
[٣٢] المبيت بمُزدلفة: وهو واجبٌ من واجبات الحجّ بإجماع العلماء، وممّا يدلّ على مشروعيّته من السنّة النبويّة قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (مَن شَهِدَ صلاتَنا هذه، ووقف معنا، حتى نَدْفَعَ، وقد وقف بعرفةَ قبلَ ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حَجُّه، وقضى تَفَثَه)،
[٣٣] أمّا زمن المَبيت بمُزدلفة، فهو عند الحنفيّة في أيّ وقتٍ بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من يوم النَّحر، ومن فاتَه إدراك ذلك الوقت فقد فاته المَبيت، أمّا الشافعيّة، والحنابلة، فقد قالوا إنّ المَبيت بمُزدلفة يبدأ منذ منتصف ليلة النَّحر في أيّ جزءٍ منها ولو ساعةً من الزمن
اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أمّا المالكيّة، فقد أوجبوا المَبيت في مُزدلفة قَدْر حَطّ الرِّحال، واعتبروا المَبيت بمزدلفة سُنّةً وليس واجباً، ومن سُنَن المَبيت بمُزدلفة المُسارعة إلى أداء صلاة فَجْر ليلة النَّحر، والدعاء، والتهليل، والتلبية، وأن يفيض إلى مِنى من مُزدلفة قبل طلوع الشمس.
رَمْي الجمرات: والجمرة هي الحصاة الصغيرة التي يرمي الحُجّاج بها الجمرات، ويرمي الحُجّاج ثلاث جمراتٍ، هي:
جمرة العقبة أو الجمرة الكُبرى؛ وتقع في آخر مِنى باتِّجاه مكّة المُكرَّمة، وجمرة العقبة الوُسطى؛ وتقع قبل جمرة العقبة للمُتوجّه إلى مِنى، والجمرة الصُّغرى؛ وهي التي تَلي مسجد الخِيف، فيرمي الحاجّ جمرة العقبة فقط يوم النَّحر، ويرمي الجمرات الثلاث؛ الصُّغرى، ثمّ الوُسطى، ثمّ الكُبرى أيّام التشريق، ويكون رَمْي كلّ جمرةٍ بسبع حَصَياتٍ.
الحَلْق أو التقصير: ويُستدَلّ على مشروعيّته من كتاب الله بما جاء في قَوْله -تعالى-: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)
[٣٤] والحَلْق أفضل من التقصير باتّفاق العلماء، ويتحقّق عند الشافعيّة بإزالة ثلاثة شعراتٍ، أو تقصيرها، أمّا مقداره عند الحنفيّة فيكون بحَلْق رُبع الرأس، أو تقصيره؛ قِياساً على مَسْح الرأس في الوضوء، بينما يتحقّق عند المالكيّة والحنابلة بتقصير جميع شَعر الرأس، أو حَلْقه، أمّا بالنسبة إلى النساء، فيُسَنّ لهنّ التقصير دون الحَلْق. طواف الوداع:
وهو من واجبات الحجّ عند جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة؛ وقد استدلّوا على وجوبه من السنّة بقَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (أُمِرَ النَّاسُ أنْ يَكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبَيْتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ)،
[٣٥] بينما خالفهم المالكيّة؛ إذ قالوا بأنّه سُنّةٌ وليس واجباً. أمّا الواجبات التابعة للفرائض والواجبات الأصليّة، فهي:
[٢٩] الإحرام من الميقات، وتجنُّب محظوراته.
الطهارة للطواف من النجاسة والأحداث، وسَتْر العورة، وجَعْل الكعبة إلى اليمين، وبَدء الطواف باستلام الحجر الأسود، وأداء ركعتَين بَعده، والمَشي للقادر عليه، وأدء طواف الإفاضة في أيّام النَّحر.
أدء السَّعي مَشْياً لِمَن كان قادراً على ذلك.
جَمْع صلاتَي المغرب والعشاء تأخيراً في مُزدلفة بعد الوقوف بعرفة، واستمرار الوقوف به إلى غروب الشمس. الحَلْق أو التقصير، وتقديم الهَدْي، وأن يكون ذلك في الحرم أيّام النَّحر، وذلك للقارن، والمُتمتِّع ، وتَرك تأخير الرَّمْي ليومٍ آخر، إضافة إلى الترتيب في مناسك يوم النَّحر؛ بأن يبدأ الحاجّ بالرَّمْي، ثمّ الهَدْي، ثمّ الحَلْق، باستثناء المُفرد في الحجّ؛ فيجب في حقّه تقديم رَمْي جمرة العقبة على الحَلْق.
سُنَن الحجّ سُنَن الحجّ هي: الأعمال التي يُثاب الحاجّ إن أتى بها، ولا يترتّب عليه شيءٌ إن تركها، وهي:
[٢٩] طواف القدوم؛ وهو سُنّةٌ في حَقّ القادمين من خارج مكّة؛ باعتبار أنّ الطواف تحيّة البيت، كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة؛ وقد استدلّوا على ذلك بما ورد في السنّة النبويّة عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنَّ أَوَّلَ شيءٍ بَدَأَ به حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بالبَيْتِ)
[٣٦] وخالفهم المالكيّة؛ فقالوا بوجوب طواف القدوم؛ اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ويبدأ وقت طواف القدوم منذ دخول مكّة، وينتهي بالوقوف في عرفة. خُطَب الإمام؛ إذ يكون في الحَجّ أربع خُطَبٍ؛ الأولى: خُطبة اليوم السابع من ذي الحجّة، وهي سُنّةٌ عند الحنفيّة والشافعيّة، والثانية:
خُطبة يوم عرفة، وهي سُنّةٌ باتِّفاق أهل العلم، ويُشار إلى أنّ خُطبة يوم عرفة تتكّون من خطبتَين؛ يجلس بينهما الخطيب، ويُبيّن فيهما أحكام الحجّ، ومناسكه، ويحثّهم على التقرُّب من الله -سبحانه-، والإكثار من الدعاء والتضرُّع
والثالثة: خُطبة اليوم الحادي عشر؛ وهي عند الحنفيّة في مِنى، وتكون يوم النَّحر عند الشافعيّة، إضافة إلى خُطبة رابعة بمِنى ثاني أيّام التشريق. التوجُّه من مكّة إلى مِنى في اليوم الثامن من ذي الحجّة، والمَبيت فيها، مع أداء خمس صلواتٍ.
التحصيب، ويُراد به: النزول في وادي المحصّب عند مدخل مكّة عند النفير من مِنى إلى مكّة، وذلك بعد إتمام جميع المناسك، وممّا يدلّ عليه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-:
(قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ وَذلكَ في حَجَّتِهِ حِينَ دَنَوْنَا مِن مَكَّةَ، فَقالَ: وَهلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا)
[٣٧] ويُستدَلّ عليه أيضاً بما ورد عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (إنَّما نزلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المُحَصَّبَ ليَكونَ أسمَحَ لِخروجِهِ وليسَ بِسُنَّةٍ فمن شاءَ نزلَهُ ومن شاءَ لم ينزِلْهُ).
[٣٨] آداب الحجّ تتعلّق بالحجّ عدّة آدابٍ، بيان البعض منها فيما يأتي:
[٣٩][٤٠] المُبادرة إلى التحلُّل من مَظالم العباد، مع الحرص على سداد الديون، وإبراء الذمّة، ورَدّ الحقوق والأمانات إلى أصحابها، وتوديع الأهل والأصحاب مع سؤالهم الدعاء بالقبول، وتيسير الأمور.
الاستخارة؛ اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ علّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلّها، ولا تكون الاستخارة لعبادة الحجّ في ذاتها، وإنّما لسؤال الله التوفيقَ في الشروع فيها، وتيسير أحوالها؛ فيُصلّي المسلم ركعتَين، ثمّ يدعو ربّه.
كتابة الوصيّة، والتزوُّد بالمال والزّاد بما يكفي سَدّ الحاجات، مع إمكانيّة التصدُّق على ذَوي الحاجة.
اصطحاب الرِّفقة الصالحة في السفر.
مُبطلات الحجّ يبطل الحجّ، ويترتّب على المسلم الإتيان بحَجّةٍ أخرى للأسباب الآتية:[٤١] عدم الإتيان برُكنٍ من أركان الحجّ. الجِماع، وذلك إن كان قَبل رَمْي جمرة العقبة
الحجّ فريضةٌ من فرائض الإسلام، وأحد الأركان التي يقوم عليها، وقد ثبتت مشروعيّته في القرآن، والسنّة، والإجماع؛ فمِن النصوص الدالّة على وجوب الحجّ من كتاب الله: قَوْله -تعالى-: (وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)،[٢] وقَوْله -تعالى-: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ)
[٣] ومن السنّة النبويّة: قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ)
[٤] وممّا يدلّ على وجوب تلك العبادة مرّةً واحدةً في العُمر من السنّة النبويّة ما ورد عن الصحابيّ أبي هريرة -رضي الله عنه-: (خَطَبَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثَلَاثًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لو قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَما اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قالَ: ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيءٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَدَعُوهُ)، كما أجمع المسلمون على وجوب الحجّ على المسلم، البالغ، العاقل، الحُرّ، مرّةً واحدةً في العُمر حال توفُّر الاستطاعة، والقدرة على أدائها.
[٥][٦][٧] فَضْل الحجّ تترتّب على الحجّ العديد من الفضائل، والتي يُذكَر منها:
[٨] اعتبارها من أعظم الأعمال، والعبادات، وأحبّها إلى الله؛ ويدلّ على ذلك ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ).
[٩] نَيْل الأجر العظيم المُترتّب على أدائه؛ فهو من أعظم أسباب تحصيل الأُجور والحَسَنات، وتكفير الذنوب والخطايا، وسبيل دخول الجنّة، كما أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ)
[١٠] وقال أيضاً: (تابِعوا بين الحجِّ و العُمرةِ؛ فإنَّ متابعةً بينَهُما تَنفِي الفقرَ والذنوبَ، كما ينفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ).
[١١] الحكمة من مشروعيّة الحجّ بيّن الله -جلّ وعلا- الحكمة من مشروعيّة الحجّ بقَوْله: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)
[١٢] ومن المنافع المُترتِّبة على فريضة الحجّ: تقوية الإيمان في النفوس، وإظهار معاني الوحدة الإنسانيّة والإسلاميّة؛ باجتماع المسلمين من أقطار العالم جميعها على اختلاف ألوانهم، وأعراقهم؛ ليُؤدّوا شعائر الحجّ في صورةٍ تُجسِّد الوحدة الإسلامية، والتكاتُف الإنسانيّ في أبهى صُوره.
[١٣] أنواع الإحرام في الحجّ يُعرَّف الإحرام بأنّه: نيّة الدخول في نُسك الحجّ، أو العُمرة، ويتحقّق من الميقات المُحدَّد شَرعاً، ويُمكن للمسلم الذي يقصد الحجّ إلى بيت الله الحرام أن يعقدَ النيّة لذلك بثلاث صورٍ مُتنوّعةٍ؛ فإمّا أن يُفرد النيّة في الحجّ، أو يَقرنها مع العُمرة، أو يعقدَها لأداء العُمرة ثمّ الحجّ، وبيان كلٍّ منها فيما يأتي:
[١٤] الصورة الأولى: الإفراد بالحجّ؛ ويكون بعَقد النيّة على الحجّ فقط، وأداء مناسكه، وأعماله، فيقول الحاجّ: "لبّيك اللهمّ بحجٍّ".
الصورة الثانية: القِران بالحجّ؛ ويكون بعقد النيّة على أداء أعمال العُمرة والحج معاً، بقَوْل: "لبّيك اللهمّ حجّاً وعُمرةً"، بأداء نُسكٍ واحدٍ، أو بإدخال فريضة الحجّ على العُمرة قبل الطواف، ويكفي عند جمهور العلماء من الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة الطواف والسَّعي مرّةً واحدةً عن الحجّ والعُمرة، بينما خالفهم الحنفيّة؛ فقالوا بالطواف والسَّعي مرّتين؛ مرّةً عن الحجّ، وأخرى عن العُمرة، مع اتّفاقهم على وجوب تقديم الهَدْي على الحاجّ القارن .
الصورة الثالثة: التمتُّع بالعُمرة إلى الحجّ؛ وتكون بعَقْد النيّة على أداء مناسك العُمرة أوّلاً، ثمّ أداء مناسك فريضة الحجّ؛ فيبدأ المُحرم بالعُمرة، ويُنهي مناسكها في أشهر الحجّ، ثمّ يتحلّل من عُمرته، ويمكث في مكّة وهو مُتحلّلٌ من إحرامه إلى أن يحين وقت الحجّ، فيُحرم به، ويُؤدّي أعماله، ونُسكه، على أن يكون ذلك في عامٍ واحدٍ، كما أجمع العلماء أيضاً على وجوب الهَدْي في حقّ الحاجّ المُتمتِّع.
أحكام الحجّ شروط الحجّ يُعرَّف الشرط في اللغة بأنّه: العلامة، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فهو: ما يترتّب على عدم تحقُّقه العدم، بينما لا يترتّب على تحقُّقه الوجود أو العدم، وللحجّ شروطٌ لا يتحقّق إلّا بها، بيانها آتياً:
[١٥] الإسلام: فلا يجب الحجّ إلّا على المسلم؛ ودليل ذلك قَوْله -تعالى-: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هـذا وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنَّ اللَّـهَ عَليمٌ حَكيمٌ)
[١٦] ومن السنّة النبويّة ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (أنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ).
[١٧] العقل: فلا يجب الحجّ على المجنون؛ لأنّه فاقدٌ للعقل الذي يُعَدّ مناط التكليف؛ استدلالاً بقَوْل الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (رُفِعَ القلَمُ عن ثَلاثٍ، عنِ النَّائمِ حتَّى يستَيقظَ، وعنِ الصَّغيرِ حتَّى يَكْبرَ، وعنِ المَجنونِ حتَّى يعقلَ أو يُفيقَ).
[١٨] البلوغ والحُرّية: فلا يُطالَب الصبيّ بالحجّ، ولا يجب عليه إلّا بعد بلوغه، وإن أدّى الحجّ صحّ منه، ويجب عليه حجّ الفرض بعد بلوغه؛ يدلّ على ذلك قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (أيما صبيٍّ حجَّ، ثم بلغ الحِنْثَ، فعليه أن يحجَّ حجَّةً أخرى، وأيما أعرابيٍّ حجَّ ثم هاجر فعليه أن يحجَّ حجةً أخرى، وأيما عبدٍ حجَّ ثم أُعتِقَ، فعليه أن يحُجَّ حجَّةً أُخرى)
[١٩] ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى العبد. الاستطاعة والقدرة: وقد فسَّر العلماء الاستطاعة الواردة في قَوْل الله -تعالى-: (وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
[٢٠] بأنّها: امتلاك الزاد، والراحلة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وابن قدامة، والشافعيّ، وسعيد بن جُبير، بينما فسّرها عكرمة بالصحّة، وشرط الراحلة يتوجّب في حَقّ مَن يسكن بعيداً عن مكّة، أمّا من يستطيع الوصول إليها ماشياً، فلا تُشترَط في حقّه الراحلة، وتجدر الإشارة إلى أنّ الحاجّ إمّا أن يكون قادراً بنفسه على أداء الحجّ، فحينئذٍ يجب في حقّه، وإمّا أن يكون عاجزاً عن أداء المناسك بنفسه، ولا يخلو عَجزه من حالتَين؛ فقد يكون العَجز مُؤقَّتاً، كأن يعتريه مرضٌ طارىءٌ يَمنعه من أداء مناسك الحجّ، مع رجاء الشفاء منه، ففي هذه الحالة يُؤجّل الحجّ إلى أن يَبرأ من مرضه، فإن أدركه الموت قبل توفُّر القدرة، فإنّه لا يُؤثَم بذلك، ويحجّ عنه غيره من ماله الذي تركه، وقد يعجز المسلم عن أداء المناسك عَجزاً دائماً؛ بسبب المرض المُزمن الذي لا يُرجى الشفاء منه، أو عدم قدرته على الركوب، فحينئذٍ لا يجب عليه أداء المناسك بنفسه، ويجوز له أن يُوكّل غيره لأدائها، وممّا يدلّ على ذلك ما ورد في السنّة النبويّة من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-:
(أنَّ امرأةً من خَثْعَمَ استفتتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في حجَّةِ الوداعِ والفضلُ بنُ عباسٍ رديفُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ فريضةَ اللهِ في الحجِّ أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يستوي على الراحلةِ فهل يَقْضِي عنهُ أن أَحُجَّ عنهُ فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: نعم).
[٢١] وجود الزوج أو المُحرم للمرأة: فلا يجب الحجّ ولا يجوز للمرأة إلّا بتوفُّر المُحرم لها، فإن أدّت الحجّ أو العُمرة دون مُحرمٍ، صحّ ذلك منها، وسقطت عنها الفريضة، مع ترتُّب الإثم عليها؛ لمُخالفتها نصوص الشريعة التي تنهى عن سفر المرأة دون زوجٍ، أو مُحرمٍ؛ إذ أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ مَسِيرَةَ يَومٍ ولَيْلَةٍ ليسَ معها حُرْمَةٌ).
[٢٢] أركان الحجّ يُشير معنى الرُّكن في اللغة إلى: الشيء القوّي الذي لا يصلح الأمر ولا يقوم دونه، ولذلك سُمِّيت أركان الحجّ؛ لأنّها أساس الحجّ، وما يقوم عليه؛ إذ لا يصلح ولا يقوم دونها، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فالركن هو:
ما كان جزءاً من ماهيّة الشيء، ولا يحصل تمامه إلّا بوجوده، فهو أمرٌ داخلٌ في ماهيّة الشيء
[٢٣] وأركان الحجّ عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة أربعةٌ، وهي: الإحرام، والوقوف بعرفة، والسَّعي، وطواف الزيارة، وأضاف الشافعيّة رُكنَين، هما: الترتيب بين تلك الأركان، والحَلْق أو التقصير، أمّا الحنفيّة فأركان الحجّ عندهم تنحصر في الوقوف بعرفة، والطواف، وتفصيل كلّ رُكنٍ فيما يأتي:
[٢٤] الإحرام بالحجّ: وهو رُكنٌ عند جمهور العلماء، وشرط صحّةٍ عند الحنفيّة، ويُراد بالإحرام: الدخول في عبادة الحجّ، وعَقْد النيّة على أداء مناسكه، ويتضمّن عند الحنفيّة النيّة والتلبية معاً، وتكون التلبية بقَوْل: "لبّيك اللهمّ".
الوقوف بعرفة: وهو من أهمّ أركان الحجّ؛ ويكون بوقوف الحاجّ وووجوده في أرض عرفة وِفق ما أَمرَت به الشريعة، وتكمُن أهميّته في أنّ فواته يترتّب عليه فَوات الحجّ كلّه، وتجب بذلك إعادة الحجّ في السنوات القادمة، وقد ثبتت رُكنيّة الوقوف بعرفة في القرآن، والسنّة، والإجماع؛ فمِنَ القرآن الكريم قَوْل الله -تعالى-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)
[٢٥] ومن السنّة النبويّة قَوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (الحجُّ عرفةَ فمَن أدرك ليلةَ عرفةَ قبل طلوعِ الفجرِ من ليلةِ جمعٍ فقد تمَّ حجُّهُ)
[٢٦] وقد أجمع العلماء على أنّ الوقوف بعرفة رُكنٌ من أركان الحجّ، بينما اختلفوا في ما يتعلّق بوقت الوقوف بعرفة، ومدّة الوقوف بعرفة، وتفصيل ذلك في ما يأتي:
وقت الوقوف بعرفة: اختلف العلماء فيه؛ فقال الحنابلة بأنّه يبدأ منذ طلوع فجر يوم عرفة وينتهي بطلوع فجر يوم النَّحر، أمّا المالكيّة فقالوا بأنّ الوقوف بعرفة يكون ليلاً، ومن تَرك الوقوف في أيّ جزءٍ من الليل فلا يكون قد أتى برُكن الوقوف، وتجب عليه إعادة الحجّ، وقالوا بأنّ تَرك الوقوف نهاراً تجب بسببه الفِدية وإن تُرِك عمداً دون عُذرٍ؛ باعتبار أنّ الوقوف نهاراً واجبٌ عند المالكيّة، أمّا الشافعيّة والحنفيّة فقالوا بأنّ وقت الوقوف بعرفة يبدأ منذ ظُهر يوم عرفة.
مدّة الوقوف بعرفة: وقد فصّل فيها العلماء؛ فقسّم الحنفيّة والحنابلة زمن الوقوف إلى زمنَين؛ الأوّل: زمن الرُّكن؛ وهو الزمن الذي تُؤدّى فيه فريضة الوقوف، ويكون بالوجود في عرفة ولو قليلاً زمان الوقوف
والثاني: الزمان الواجب؛ ويكون بالوقوف في عرفة منذ ظُهر يومه إلى غروب الشمس، وعدم مغادرة عرفة إلّا بعد الغروب ولو بلحظةٍ واحدةٍ؛ أي أن يجمع الحاجّ وقوفه بعرفة بين الليل والنهار، وقال المالكيّة بأنّ الوقوف في عرفة يكون ليلاً، أمّا الشافعيّة فقالوا بأنّه يُسَنّ الجَمع بين الليل والنهار في عرفة، ولا يجب الجَمع، ويُجزئ الوقوف بعرفة في أيّ وقتٍ من ظهر يومه إلى فجر يوم النَّحر.
طواف الزيارة أو طواف الإفاضة: وقد سُمِّي بهذين الاسمَين؛ لأنّ الحاجّ يأتي إلى مكّة المُكرَّمة، أو يفيض إليها من مِنى دون البقاء فيها، وقد دلّ على مشروعيّة الطواف قَوْله -تعالى-: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
[٢٧] ومن السنّة ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (حَاضَتْ صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ بَعْدَ ما أَفَاضَتْ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ حِيضَتَهَا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَحَابِسَتُنَا هي؟ قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّهَا قدْ كَانَتْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بالبَيْتِ، ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإفَاضَةِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: فَلْتَنْفِرْ)
[٢٨] كما أجمع المسلمون على فرضيّته، ويُؤدّيه الحُجّاج يوم النَّحر بعد أدائهم مناسكَ الرَّمْي، والنَّحر، والحَلْق والتقصير؛ بالطواف سبعة أشواطٍ، بينما اعتبر الحنفيّة الرُّكن في الطواف أكثره؛ أي أربعة أشواطٍ، أمّا السبعة فهي من الواجبات التي تنجبر بالفِدية، ويجب عند جمهور العلماء من الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة الطواف مَشياً في حَقّ الحاجّ القادر عليه، كما يجب أداء ركعتَين بعد الطواف، بينما ذهب الشافعيّة إلى أنّ الطواف مَشياً، وأداء الركعتَين سُنّةً، ويُشترَط في طواف الزيارة الإحرام والوقوف بعرفة قبله؛ فلا يصحّ أيّ عملٍ من أعمال الحجّ دون إحرامٍ، ولا يصحّ الطواف أيضاً قبل الوقوف في عرفة بإجماع العلماء، ولم يشترط الشافعيّة، والحنفيّة، والمالكيّة تعيين نيّة الطواف؛ لدخول الطواف في نيّة الحَجّ بالمُجمَل، أمّا الحنابلة فاشترطوا تعيين نيّة طواف الزيارة، كما لا يصحّ الطواف قبل وقته المُحدَّد شرعاً، وقد حَدّده الحنفيّة، والمالكيّة من طلوع الفجر الثاني من يوم النَّحر، وقال الشافعيّة، والحنابلة بأنّ طواف الزيارة يبدأ من بعد منتصف ليلة النَّحر بشرط الوقوف في عرفة قبله.
السَّعي بين الصفا والمروة: حيث يطوف الحاجّ بين الصفا والمروة سبعة أشواطٍ بعد طواف الإفاضة، والسَّعي رُكنٌ من أركان الحجّ عند الشافعيّة، والمالكيّة، والحنابلة، وواجبٌ عند الحنفيّة تترتّب الفِدية بتَرْكه، ويجب المَشي فيه للقادر عند الحنفيّة، والمالكيّة، ويُسَنّ عند الشافعيّة، والحنابلة. واجبات الحجّ الواجب لغةً:
من اللزوم والثبات، يُقال: وجبَ الأمر؛ أي أصبح لازماً ثابتاً، أمّا الواجب في الاصطلاح، فهو: ما يقتضيه الأمر، ويترتّب على أدائه الثواب والأجر، ويترتّب على تَرْكه العقاب والإثم، وأَمر الوجوب لا ينصرف من الأمر إلى الاستحباب إلّا بدليلٍ يصرفه إليه، أمّا واجبات الحجّ، فهي:
[٢٣][٢٩] الإحرام من الميقات: وهو المكان الذي جُعِل للإحرام بالحجّ والعُمرة؛ ودليل وجوب ذلك ما أخرجه الإمام البخاريّ في صحيحه من قَوْل النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (هُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ).
[٣٠] المَبيت بمِنى: ويكون المَبيت فيها ليالي أيّام التشريق، وقد ثبت في السنّة النبويّة أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أذِن لعمّه العبّاس أن يبيت في مِنى للسقاية، كما ثبت في صحيح البخاريّ عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: (أنَّ العَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه اسْتَأْذَنَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَبِيتَ بمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِن أجْلِ سِقَايَتِهِ، فأذِنَ له)،
[٣١] ويكون المَبيت في مِنى ليالي التشريق الثلاث للمُتأخِّرين، وليلتيَن للمُتعجِّلين؛ ودليل مشروعيّة المَبيت بمِنى من القرآن الكريم قَوْله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا اللَّـهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
[٣٢] المبيت بمُزدلفة: وهو واجبٌ من واجبات الحجّ بإجماع العلماء، وممّا يدلّ على مشروعيّته من السنّة النبويّة قَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (مَن شَهِدَ صلاتَنا هذه، ووقف معنا، حتى نَدْفَعَ، وقد وقف بعرفةَ قبلَ ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حَجُّه، وقضى تَفَثَه)،
[٣٣] أمّا زمن المَبيت بمُزدلفة، فهو عند الحنفيّة في أيّ وقتٍ بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من يوم النَّحر، ومن فاتَه إدراك ذلك الوقت فقد فاته المَبيت، أمّا الشافعيّة، والحنابلة، فقد قالوا إنّ المَبيت بمُزدلفة يبدأ منذ منتصف ليلة النَّحر في أيّ جزءٍ منها ولو ساعةً من الزمن
اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أمّا المالكيّة، فقد أوجبوا المَبيت في مُزدلفة قَدْر حَطّ الرِّحال، واعتبروا المَبيت بمزدلفة سُنّةً وليس واجباً، ومن سُنَن المَبيت بمُزدلفة المُسارعة إلى أداء صلاة فَجْر ليلة النَّحر، والدعاء، والتهليل، والتلبية، وأن يفيض إلى مِنى من مُزدلفة قبل طلوع الشمس.
رَمْي الجمرات: والجمرة هي الحصاة الصغيرة التي يرمي الحُجّاج بها الجمرات، ويرمي الحُجّاج ثلاث جمراتٍ، هي:
جمرة العقبة أو الجمرة الكُبرى؛ وتقع في آخر مِنى باتِّجاه مكّة المُكرَّمة، وجمرة العقبة الوُسطى؛ وتقع قبل جمرة العقبة للمُتوجّه إلى مِنى، والجمرة الصُّغرى؛ وهي التي تَلي مسجد الخِيف، فيرمي الحاجّ جمرة العقبة فقط يوم النَّحر، ويرمي الجمرات الثلاث؛ الصُّغرى، ثمّ الوُسطى، ثمّ الكُبرى أيّام التشريق، ويكون رَمْي كلّ جمرةٍ بسبع حَصَياتٍ.
الحَلْق أو التقصير: ويُستدَلّ على مشروعيّته من كتاب الله بما جاء في قَوْله -تعالى-: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)
[٣٤] والحَلْق أفضل من التقصير باتّفاق العلماء، ويتحقّق عند الشافعيّة بإزالة ثلاثة شعراتٍ، أو تقصيرها، أمّا مقداره عند الحنفيّة فيكون بحَلْق رُبع الرأس، أو تقصيره؛ قِياساً على مَسْح الرأس في الوضوء، بينما يتحقّق عند المالكيّة والحنابلة بتقصير جميع شَعر الرأس، أو حَلْقه، أمّا بالنسبة إلى النساء، فيُسَنّ لهنّ التقصير دون الحَلْق. طواف الوداع:
وهو من واجبات الحجّ عند جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة؛ وقد استدلّوا على وجوبه من السنّة بقَوْله -عليه الصلاة والسلام-: (أُمِرَ النَّاسُ أنْ يَكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبَيْتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ)،
[٣٥] بينما خالفهم المالكيّة؛ إذ قالوا بأنّه سُنّةٌ وليس واجباً. أمّا الواجبات التابعة للفرائض والواجبات الأصليّة، فهي:
[٢٩] الإحرام من الميقات، وتجنُّب محظوراته.
الطهارة للطواف من النجاسة والأحداث، وسَتْر العورة، وجَعْل الكعبة إلى اليمين، وبَدء الطواف باستلام الحجر الأسود، وأداء ركعتَين بَعده، والمَشي للقادر عليه، وأدء طواف الإفاضة في أيّام النَّحر.
أدء السَّعي مَشْياً لِمَن كان قادراً على ذلك.
جَمْع صلاتَي المغرب والعشاء تأخيراً في مُزدلفة بعد الوقوف بعرفة، واستمرار الوقوف به إلى غروب الشمس. الحَلْق أو التقصير، وتقديم الهَدْي، وأن يكون ذلك في الحرم أيّام النَّحر، وذلك للقارن، والمُتمتِّع ، وتَرك تأخير الرَّمْي ليومٍ آخر، إضافة إلى الترتيب في مناسك يوم النَّحر؛ بأن يبدأ الحاجّ بالرَّمْي، ثمّ الهَدْي، ثمّ الحَلْق، باستثناء المُفرد في الحجّ؛ فيجب في حقّه تقديم رَمْي جمرة العقبة على الحَلْق.
سُنَن الحجّ سُنَن الحجّ هي: الأعمال التي يُثاب الحاجّ إن أتى بها، ولا يترتّب عليه شيءٌ إن تركها، وهي:
[٢٩] طواف القدوم؛ وهو سُنّةٌ في حَقّ القادمين من خارج مكّة؛ باعتبار أنّ الطواف تحيّة البيت، كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الشافعيّة، والحنابلة، والحنفيّة؛ وقد استدلّوا على ذلك بما ورد في السنّة النبويّة عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنَّ أَوَّلَ شيءٍ بَدَأَ به حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بالبَيْتِ)
[٣٦] وخالفهم المالكيّة؛ فقالوا بوجوب طواف القدوم؛ اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ويبدأ وقت طواف القدوم منذ دخول مكّة، وينتهي بالوقوف في عرفة. خُطَب الإمام؛ إذ يكون في الحَجّ أربع خُطَبٍ؛ الأولى: خُطبة اليوم السابع من ذي الحجّة، وهي سُنّةٌ عند الحنفيّة والشافعيّة، والثانية:
خُطبة يوم عرفة، وهي سُنّةٌ باتِّفاق أهل العلم، ويُشار إلى أنّ خُطبة يوم عرفة تتكّون من خطبتَين؛ يجلس بينهما الخطيب، ويُبيّن فيهما أحكام الحجّ، ومناسكه، ويحثّهم على التقرُّب من الله -سبحانه-، والإكثار من الدعاء والتضرُّع
والثالثة: خُطبة اليوم الحادي عشر؛ وهي عند الحنفيّة في مِنى، وتكون يوم النَّحر عند الشافعيّة، إضافة إلى خُطبة رابعة بمِنى ثاني أيّام التشريق. التوجُّه من مكّة إلى مِنى في اليوم الثامن من ذي الحجّة، والمَبيت فيها، مع أداء خمس صلواتٍ.
التحصيب، ويُراد به: النزول في وادي المحصّب عند مدخل مكّة عند النفير من مِنى إلى مكّة، وذلك بعد إتمام جميع المناسك، وممّا يدلّ عليه ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-:
(قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا؟ وَذلكَ في حَجَّتِهِ حِينَ دَنَوْنَا مِن مَكَّةَ، فَقالَ: وَهلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا)
[٣٧] ويُستدَلّ عليه أيضاً بما ورد عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (إنَّما نزلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المُحَصَّبَ ليَكونَ أسمَحَ لِخروجِهِ وليسَ بِسُنَّةٍ فمن شاءَ نزلَهُ ومن شاءَ لم ينزِلْهُ).
[٣٨] آداب الحجّ تتعلّق بالحجّ عدّة آدابٍ، بيان البعض منها فيما يأتي:
[٣٩][٤٠] المُبادرة إلى التحلُّل من مَظالم العباد، مع الحرص على سداد الديون، وإبراء الذمّة، ورَدّ الحقوق والأمانات إلى أصحابها، وتوديع الأهل والأصحاب مع سؤالهم الدعاء بالقبول، وتيسير الأمور.
الاستخارة؛ اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ علّم أصحابه الاستخارة في الأمور كلّها، ولا تكون الاستخارة لعبادة الحجّ في ذاتها، وإنّما لسؤال الله التوفيقَ في الشروع فيها، وتيسير أحوالها؛ فيُصلّي المسلم ركعتَين، ثمّ يدعو ربّه.
كتابة الوصيّة، والتزوُّد بالمال والزّاد بما يكفي سَدّ الحاجات، مع إمكانيّة التصدُّق على ذَوي الحاجة.
اصطحاب الرِّفقة الصالحة في السفر.
مُبطلات الحجّ يبطل الحجّ، ويترتّب على المسلم الإتيان بحَجّةٍ أخرى للأسباب الآتية:[٤١] عدم الإتيان برُكنٍ من أركان الحجّ. الجِماع، وذلك إن كان قَبل رَمْي جمرة العقبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق