زعـــيــم الـغــزل الصريح: عمــر إبـن أبــي ربــيــعــــة.
هــو مـن دون مـنــازع زعــيـــم الـغــزلــيـن الأمـــويـيــن جميعـاً لا نـســتـثــنـي مـنهـم أحــداً.
وهـذا الـغــزل الأمـــوي يمـثــل نـفـــس الـشـاعـــر والجـمـاعــة التـي كـان يـعـيــش
فيهــا تمـثيــلاً صــادقــاً صـــحـيحــاً. والــذي يــريـد ان يــدرس حــيـاة الأرســـتــقــراطـيــة
القـرشــيــة في الحـجـــاز أثــنـــاء القــــرن الأول للهـجـــرة يجـــب أن يـتـلمـــس هــذه
الحــياة في شــعــر عمــر إبـن أبــي ربــيـعـــة، فـسيـجـد في هـذا الشـعـر كـيـف كـان ســراة
قـريــش والحـجــاز يـقـضـون حياتهـم الهـادئـة الـفـارغـة، بـل ســيجـد في الـشعـر ألـوان
الـصـِـلات المـُـختـلفـة الحـلوة المـُـبـتـسـمــة التي كانـت تـصـــل بـيـن هــؤلاء الـســراة.
بعـض الـذين كـتـبوا ســـيرة عمــر وتـاريخــه قــد زعمـــوا أن عمـــر كان مـسـرفـاً في الفـجــور،
وأخــريـن زعمــوا إنــه كـان مـسـرفـاً في العـفــة، فـنـرى أنــه لم يكـن مـسـرفاً في اللـهــو
كمـا أنــه لم يكـن مـســرفـاً في حـُـسـن الـســيرة.
وبـين ايـديـنـا قائمــة طويلـة مـن شـــريفات قـريــش وبنـات وزوجـات الخـلفـاء وأعيــان
الـبـلـد اللأتـي تـغـزل وأفـتــتــن إبن أبي ربيـعـة في حـُـبـهــن، وقــد عـاش عـيـشـــة الـرجــل
المــتــرف الذي اتـيحـت لـه وهـيـئـت لـه أســباب اللـهــو و وسـائلــه، ولكـنــه مـع ذلـك كان
مـقـيـد بما يفـرضــه عليــه مجـتـمعــه وبمـا إلفــــه مـن الأوضــاع الإجـتـماعـيــة،
فهـو يـلهــو ولكـن بمـقــدار وهـو يـصــف ولكـن بمقـدار أيضـاً ... لكـن علـينـا في نفـس الوقـت
ان نعـتـــرف ونـقـِــر بـانـــه كـان رئـيــس مــذهـــب في الــغــــزل الإبـــاحـــي، لأنــه لـم
يكـن يـتــغـزل في الهـــواء ولا يــطـمــح إلـى المـثــل المعـنـوي الأعـلى، وإنمـا كان يعـيـش
في الأرض ويـسـتـبـيح لـنـفـســـه مـن اللــذات مـا أبــاح لــه الــديـن ومـا لـم يــبــح،
وهـو غــيـر الـشـاعـر جمـيــل بـثـيـنــه الـذي كـان زعـيــم الغــزل الـعـُــذري الـعــفــيـــف،
والــذي لـم يكـن يطـمــح إلا إلـى المـثـــل الأعـلــى وإلـى الجـمــال مـن حــيث هــو،،
وهــو أي جمـيـل لا يـبـتــغـي لــــذة ولا يــســتــبـيح شـــــيئـاً لــم يـبحـــه الــديـن
ولــم تـــــرض عنـه الأخــلاق.
هــذه مجـرد أشــياء عـامــة، فكمـا أسـلـفـنـا في بـدايـة هـذا المقـال فـان عمر ابن
أبي ربـيـعــه وشعـره لـيــس بالشخـصيـة السهـلـة التي يستطيـع أي كاتـب ان يقـدمـه
أو يـدرســه في مـقال واحــــد.
لنـرى حــُــب إبن أبي ربـيعـة مـا هـــو ؟...
ومــا ســـبـيــلــه ؟...
ومـا أثـــره في الـبـيــئــــة التي ظـهــــر فـيـهــا ؟...
وقــد رأيـنـا في الـسـطـور الأولـى عمـــر لـم يكـن عـُــذريـاً،
ولـم يكـن يــريــد أن يـذهـب مـذهــب الـعـُــذريـين، وإنمـا كان عـمـلـيـاً مـُحـقـقـاً يلـتـمـس
الحـُـب في الارض لا في الـســمـاء. ورأيـنـا كـذلك أنــه لـم يكـن يـذهـب في حـُـبــه
مـذهـب أصـحـاب المـجــون مـن شـُـعـــراء العـصــر الـعـبـاســي فلـم يكـن يــسـرف
في العـبث، وإنمـا كـان يقـتــصــد إقـتـصـاداً ويـتــوســط في حـُـبـــه تـوسـطـاً، فـيـعــف
كـثــيـراً، ويعـبــث قـليـلاً، وكانــت ظــروف حـياتــه نـفسـهـا تكـرهــه على هـذه الـعـِـفـــه،
لأنــه لـم يـــدع إمـــــرأة شــــريفــة مـن قـريـــش إلا شـــبــب بهــا، ومـا كان لــه أن يتجـاوز
العـِـفــه في هــذا الـتـشــبــيـب، إنمـا الـذي نــريــد أن نـتـبــيـنـــه هـو طـبــيـعــة
هــذا الحـُــب. فنـلاحـظ قـبـل كل شـيء أن عمـــر لـم يكـن يحــب بـعـقـلـــه ولا بــقـلـبــــه،
وإنـمــا كـان يحــب بـحـســــه، وبحـســـه لـيـــس غـــير، ولـم يعـرف العـصـر الأمـوي
كلــه شـاعـراً وصــف المــرأة جمـلـــة وتـفـصــيلاً بمـثــل مـا وصـفهـا بــه
عمـر إبن أبي ربـيعــــة جــــودة وكـثــــرة ودقـــــة بــنـــوع خــاص.
لـم يكـن عمـــر يقـصــر الـصـِـلــة بالمـرأة على معـنـاهـا المـادي وحـــده، وإنمـا كان
يـريــدهـا واسـعــة مـتـنـاولـة جمـيــع أطــراف الحـياة، ولـسـت أشــك في أن
عمــر إبن أبي ربـيـعـــة كـان صــديقـاً للمـرأة بالمعـنـى الحـديــث الـذي نـفهـمــه لـصـداقــة
المــرأة، كان يــريـد لهـا مـن الحـُــريـــة مـثـل مـا يــريـده للــرجـل،
وكـان يـريــد أن تظـهــر المـرأة فـخــرهـا بجمـالهـا وروعـتــهـا كمـا يظـهــر الـرجـل فخــره
بـشجـاعـتــه وبـأســـه، كان يــريـد أن تــزول الفــروق بـين الجـنـسـين وألا يكــون
بـيـنـهـمــا حـجـــاب.
هــذا هـو عمـر إبن أبي ربـيـعـــة الــذي لـم يكـن يـتــصــور المــرأة إلا أنهــا مكـمـلـــة
للـرجــل، هــذا هـو صــديــق المـرأة، والـذي دافـــع عـن حـقـوقهـا ومـسـاواتهـا مـع الـرجـل،
وكان هـذا في وقـت عصـيب وظــروف إجتماعـية صـعـبــة ومـستحـيلــة.
وعمربن أبي ربيعة يعتبرممن يناصرالمرأة لانه اقترب منها وعرف همومها ولكنه اظهرها باحسن ماتريده هي من الرجل ،انامع ماجاء في المقال بشأن عمر واختلاف شعره عن نمطه السائد التقليدي في زمان مختلف وارض مقدسة في الحجازلكن ذلك يعكس البحبوحة التي كانت في الارستقراطية الاسلامية في العصرالأموي وعندعمرنفسه الذي شب على الدلع والعناية من امه اليمنية وابوه القرشي ،كانت هذه حالة وليست ظاهرة رغم فرادتها ولكنها تحولت الى ظاهرة وتطورت وبلغت ابهى صورها الى درجة المجون في العصر العباسي .
من خلال رقة وعذوبة شعر عمرلا نختلف من انه شاعرالمرأة ونصيرها
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ( 644 - 711 م ) ، حذيفة بن المغيـرة المخزومي القرشي ، كان والده من سـادات قـريـش . ولد عـمر يوم قتل عمر بن الخطـاب وفيه قيل : " أي باطـلٍ وضـع وأي حـقٍ رفـع ".
[نشـأ في أسـرة عظـيمة الجاه ، وفـرت له أسباب الراحة والترف فأنصرف إلى حياة المجون . كان شاباً جميلاً وغنياً وكان يعترض قوافل الحجاج ويشبب بالحاجات في مواسم الحج.
ابن ابي ربيعه هو الشاعر الوحيدالذي تخلا عن جميع الاغراض الشعريه فلم يمدح ولم يفتخر ولم يرثي فقط اعطى كل وقته للحب ووصف المراه وقد امتاز عن غيره بشعره القصصي البديع الذي لم يوصل الى مستواه اي شاعر فهو بحق زعيم الشعر القصصي.
وشـعـر ابن أبـي ربيعة في المـرأة لا يتميـز عن غيـره في ذكر محاسـنها الخارجية ، ولكنه يتميـز بإدراك نفسـيتها ، وتصـوير أهوائها وعـواطفها ، معـرفة حديثها وطرق تعبيـرها ، فليســت المـرأة شــبحاً غامضاً يتراءى في شعره ، بل روحٌ خافق الفؤاد مختلج بعناصر الحياة .
و قد وصـف لنا المـرأة العربـية وصفـاً دقـيقـاً ، ورسـم لنا رسـماً واضح المعالم ما كان يستملحه العرب يومئذٍ من المرأة في كل جزء من أجزائـها ، وأنـه أبان إلى حدٍ كبيـر عن عواطـفها وما يثيـر غضـبها أو رضاها ، وعما يدفعها إلى الجفـوة والصـدود والتأبي والغضـب . كما صور في خلال شعره ما يـدور بنفـسها مـن خلجـات وترهـات وأفـكارٍ مضطـربة مخـتلطة حينـاً ومتنـاقضةً حيناً آخـر . وهـو في كل واحدةٍ من أولئـك تابـع لغيره من الشعراء الذين تعرضوا لوصف النساء وإن امتاز عنهم بثلاثة أشياء :
أولهما : أنه يتتبع الشيء من ذلك ويفصله تفصيلاً دقيقاً ، ويكرره فيطيل أحياناً ويجزئ أحيانا .
وثانيهما : أنـه جمـع في شـعره ما تفــرق في شـعــر غيـره فـكان فيه العـوض عـنهـم جـميعـاً ، وليـس في غيـره عــوضٌ عنه ، وحسـبك أن ديوانه المشتمل على خمسٍ وثلاثين وثلاثمائة قطعة لـيس فيها قطعة واحدة في غير وصف النساء والتشبب بهن .
وثالثهما : أنه ابتكر في شعـره أسلوبا جديدا طريقةً امتاز بها عن غيره ، ألا وهو حديث صاحبتـه مع جـواريـها أو صديـقــاتها ، وفــي أثـنـاء هــذا الـحديــث يكشف لنا عـن مشـاعر صاحبته إزاءه ، كما يكشف لنـا عـن أفكـار المـرأة فـي مجتمعـه . وهـذا ولاشـك يـفـيـض علـى شـعره حيـوية لأن فيه قـرباً من الـواقــع
قالت الكبرى أتعرفن الفتى قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر
وقال ايضا
أشارت بمدراها ، وقالت لأخـتها : "أهذا المغيري الذي كان يذكر
" أهذا الذي أطريت نعتاً ، فلم أكن ، وعيشك ، أنساه إلى يوم أقبر "
فقالت " نعمْ ، لا شكّ غير لونهُ سرى الليل يحيى نصه والتهجر "
" لئن كان إياه , لقد حال بعدنا عن العهد ، والإنسان قد يتغير
وعمربن ابي ربيعة، في قصصه وحواره فيکثر من القسم واشهاد الله والاستحلاف، وقد يکون ذلك من خصائص الحديث في ذلک العهد.
بربك هل أتاك لها رسول
فنشاتك ام لتيتً لها حًدينا
فعمر يتحدث معنا بلسان النساء ونفسيتهن، وما يغمرهن من غيرة شديدة حين يتغني شخص بجمال احداهن وما لها من فتنة واغراء.
وغزل عمر ظريف من هذه الناحية، فهو يقصُّ، علينا کثيراً من احاديث النساء وتُرّهاتهن، وما يجول فى اذهانهن، وکل ذلک يمده فيه تربية امه له، وما تعوّده من الجلوس مع المرأة في عصره. واکبر الظن أني لا أغلو اذ زعمت ان عمر به جانب من انعکاس العاطفة وشذوذها، فنحن لا نجد عنده الشاعر الغزل المألوف الذي يعني بوصف حُبّه، وانما نجد شاعراً يعنى بوصف المرأة نفسها وصف احاسيسها، وکان غايته من ديوانه ان يصف المرأة وصفاً نفسياً.
ومعني ذلك ان عمر في ديوانه وغزله معطّل الي حد کبير، اذ حول الغزل من الرجل الي المرأة، فالصوره العامة فى غزله انه معشوق لا عاشق، وعمر في ذلک يعبّر عن تطور جديد فى الحياة العربية، فقبله لم نکن نعرف شاعراً يصبح شخصه موضوع الغزل فى غزله، انما شخص المرأة فهو الموضوع المعروف للغزل، وبعبارة اخري کانت المرأة قبل غزل ابن ابي ربيعة هي المعشوقة، اما في غزله، فقد تحولت الي عاشقة، کما تحول عمر نفسه من عاشق الي معشوق.
ولعل هذا ما جعل عمر ينفرد في غزله بشخصيته واضحة، ولم يستطع احد أن يجاريها، لأن عمر نفسه ليس من السهل ان يوجد مراراً، اذ لابد للشاعر من ظروف کثيرة تحوّله من عالم العاشقين الي عالم المعشوين، لابد ان يکون له ثراء عمر، وان تکون له امه التي عاشت له، وعاشت تعشقه، وايضاً لا بد ان يوجد مجتمع مکة وما فيه من نساء أصبن شيئاً من الحرية، فکثر الاختلاط بينهن وبين الرجال، علي نحو ما کثر بين نسا مکة وابن ابي ربيعة.
واذن لم يکن عمر عاشقاً في غزله، بل کان معشوقاً ولعل ذلک ما يدل بوضوح علي فساد هذا القصص الذى اکثر منه الرواة عنه، والذي حکاه صاحب الاغاني، فاکثره لايتفق وهذه الشخصية التى شذت فى عواطفها ولذلک کنا لانشک في عفّة عمر کما شک القدماء، نمثله في تربيته وعواطفه لايکون اباحّياً، ولعل ذلک کان سبباً مهماً فى ان نساء قريش کنّ يبرُزن له، ويتحدّثن اليه.
والحوار القصصي جعل الشاعر فيها اسير مدرسة شهيرة من مدارس الفن القصصي في الادب الحديث وهي المدرسة الواقعيية التي لا تأنف من تصوير الواقعة كما هي،و اذا اجبنا قياسه بمقياس المدارس الادبية المعاصرة.
والملاحظ ان مثل هذه الحوادث العابرة كثير في قصائد هذا الشاعر،و قد نظمها لذاتها،مسجلا فيها بداوته ومغامراته،كما يفعل من يدون مذكراته اليومية مصورا ما جرى معه خلال اليوم من حوادث واخبار،و لو شئنا ان نقولها من الناحية الفنية القصصية،لرأينا ان الحوار القصصي هو العنصر البارز الذي يطعن فيها على سائر العناصر الاخرى التي يمكن ان تتوافر في القصة،وهذا هو الذي جعل (العقاد) يرى ان عمر لم يبدع-كما يقول بعض النقاد-في فن القصة المنظومة،بل ابدع في الحوار القصصي او ما يطلق عليه الحديث المنطوم.
وبرأيي سبب تسميته بالحديث المنظوم لان هذا الشعر والغزل عند العمر واصحابه لا يصدر عن عاطفة الشاعر الصادقة لذا سمي بالحديث المنظوم بدل الشعرالذي يصدر عن العاطفة الصادقة.
ونستطيع بذلک ان نفهم لماذا لم يکن لعمر مدرسة في تاريخ الغزل العربى، لأنه کما قدمنا کان متفرد الشخصية، وعملت ظروف مختلفة في تکوينه ليس من السهل ان توجد عن غيره، ولاريب في انه ثمرة نهايئة لهذه الخسارة التي دخلت في مکة والمدينة، فأرهفت المشاعر، وطبعت الناس بطوابع جديدة، وقد يکون فيه ضرب من الشدوذ العاطفى، ولکنه مع ذلک استطاع ان ينفذ الي تصوير مجتممه الجديد، فنحن لانقرأ ما يصف به امرأة عصرهِ واقبالها علي حديث الرجال وما يکون بينهما وبينهم من رسل، حتي نطلع علي صوره جديدة للمرأة العربية.
وهذا القول الذي جاء به شوقى ضيف. ان عمربن ابي ربيعه لم يکن له مذهب ومدرسة شعرية برأيى مردود لأننا نجد جاء فىکتاب( کيف أفهم النقد): «هو» عمربن ربيعه «مؤسس المدرسة الواقعية في الادب العربي وان سبقته امرؤ القيس والنابغة الذبياني بقليل من الشعر کان بمثابة الاساس الذي اقام عليه عمر دعائم مدرسته»
ميزة الحب العمري:
انه بوجه عام حب حسي يهيم بالصورة الجميلة ويذهب مذهب الواقعيية، لا يعرف اثراً للمعاناة في العلاقة، ولايعکس شعوراً بالحرمان. المثالية فيه ليست فى القناعة والعفة، بل هي فى الاستجابة للجمال في کل انواعه وقسماته وبکل الجوارح والأحاسيس. وهو کذلک حب متحضر، لايعرف الثبات، ولاقدرة له علي المعاندة يميل الي اللهو العابر، ولا يسعي للامتلاک الدائم. تتجدد اجواؤه، وتنتقل خطاه في عالم الحس وهياكله المختلفة,ليس من طبعه أن يكون عبارة صامتة للروح لأنه اندفاع جري الي الوصال، مليء بالحرکة، مفعم بحرارة الشباب وصولته. وتتکرر هذه الميزات في اکثر قصائده، لتهالکه علي اللون الواحد من الشعر.
الغزل العذزى
الغزل العذري فن شعري تشيع فيه حرارة العاطفة التي تصور خلجات النفس وفرحة اللقاء وآلام الفراق، ويحفل بوصف جاذبية المحبوبة وسحرها ونظرتها وقوة أسرها، ولا يتجاوز ذلك. ويقتصر فيه الشاعر على محبوبة واحدة ردحًا من حياته أو طوال حياته. وسُمِّي عُذْريًا لأن أول من اشتهر به من قبائل العرب هم بنو عُذْرة، ثم أصبح الغزل العذري بعد ذلك فنًا ينطبق على كل من نهج نهجهم وذهب مذهبهم، وعبَّر عن أحاسيسه وعاطفته تعبير الشعراء العذريين.
عُرف الغزل العذري منذ الجاهلية، إلا أنه تميَّز تميُّزًا ظاهرًا في صدر الإسلام، وفي عهد بني أمية،حيث أصبح مدرسة شعرية قائمة بذاتها، حين انقسم شعر الغزل إلى اتجاهين: عذري وصريح. وقد انتشر الغزل العذري في بادية الحجاز حيث يقيم بنو عذرة، وفي عالية نجد حيث تقيم القبائل الحجازية النجدية. وقد كانت ظروف المعيشة والواقع الإسلامي من أسباب انتشار الغزل العذري في بيئات البادية التي تحولت في هذا العصر إلى حياة جديدة في قيمها ومُثُلها ومعارفها فحافظت على الطُّهر والنقاء.
كان شعراء الغزل العذري في وضع اجتماعي أقرب ما يكون إلى الكفاف والقناعة؛ إذْ لم يحسنوا التكيف السريع مع مستجدات الأحداث، ولم يستطيعوا البقاء على حياة الجاهلية الأولى التي كانوا يعيشونها قبيل الإسلام. وعندما انتقلت قوة القبائل وشوكتها إلى الأمصار وانتقل جلّ شبابها مع الفاتحين، لم يبق في بادية الحجاز غير أولئك الذين لم يستطيعوا ترك بلادهم وأهلهم. وقد تأثروا بالإسلام وطُبعت حياتهم الجديدة بشيء غير قليل من التغيُّر؛ فعبروا عنه بالزهد في الحياة وملذاتها، ووجدوا في الشعر تعويضًا عن مطامح الدنيا التي لم يستطيعوا مواجهتها، كما وجدوا قبولاً لدى الناس لهذا الفن، عوَّضهم عمَّا فقدوه في واقعهم الاجتماعي.
وأصبح للشعر العذري عناصر مشتركة حافظ عليها الشعراء ولم يتخلوا عنها، وهي وصف حدة الهجران والحرمان، ومعاناة الصبر، وتأجج نار الحب، واحترام العلاقة بين العاشقين، والأخذ بالعفة والرضى بالعلاقة الطاهرة. وإذا كان الغزل العذري استجابة لظروف بيئية، واتبَّاعًا لعادات وأعراف اجتماعية ساعدت على نموه في نفوس الناس؛ فإنه قد اتخذ العاطفة الصادقة سبيلاً لشرح العلاقة بالطرف الآخر، فقويت بواعثه في نفوس بعض الشعراء حتى أثمرت العلاقة الطاهرة التي تستجيب لفطرة الإنسان وتحترمها.
ولا يتخذ الغزل العذري مظهرًا واحدًا عند المحبين جميعًا، فهو هادئ عند بعضهم، ثائر عند آخرين، يلامس بعض النفوس فتقوى لديها عاطفة الحب حتى تستبد بالشاعر، فيصف لواعج الحب ولهيب الجوى الذي يكتوي به قلبه، وهو عنها راضٍ ليعيش في حب دائم لا ينقطع، وإن انقطعت أسبابه من الطرف الآخر، حتى يصير شعره أنينًا وتضرُّعًا، ولكنه لا يجد راحة ولا ييأس من وصْل المعشوقة على كل حال.
--------
خصائص الغزل العذري
1-الا قتصار على محبوبة واحدة –
2 وحــــــــدة الموضوع
3-- بساطة المعاني والسهولة والوضوح
4-الصــــــــــــدق
5-- العفّــــــــــــــة
6-- الحزن والتشاؤم
خصائص الغزل الصريح
الغزل الصريح الحسّي العمري
يجمع هذا الاتجاه بين الغزل الفاحش الصريح, وغير الفاحش, وقد شاع في مدن الحجاز, وخاصة في مكة والمدينة, وكان زعيمه الأول عمر بن أبي ربيعة في مكة, والأحوص في المدينة, ومهما يكن من أمر فقد أخذ عمر بن أبي ربيعة الزعامة المطلقة في هذا الباب, وغلّب البعض تسمية هذا النوع من الغزل منسوبة إلى عمر فقالوا.. الغزل العمري
عدم ثبات الشعراء على امرأة واحدة, مما دعا إلى كثرة الأسماء عندهم, وعلى سبيل المثال نقول إن الدكتور جبرائيل جبور ذكر في كتابه عمر بن أبي ربيعة علاقة هذا الشاعر مع اثنتين وأربعين من النساء, بالإضافة إلى علاقته مع عدد من الجواري
سار شعراء هذا اللون في إطار قصصي في وصف مغامراتهم الغرامية, شأنهم بذلك شأن بعض شعراء الجاهلية
كثرة الرسل, والإشارة إلى الرسائل الغزلية مع النساء, وقد نمت هذه الظاهرة واتسعت في الغزل العباسي وخاصة عند العباس بن الأحنف. هذا بالإضافة إلى خصائص برزت في شعر عمر بن أبي ربيعة بشكل خاص أهمها
الإجادة في وصف المرأة ومميزاتها
وصف القامة والمشية وبشرة الجسم, وأعضائه
تغزله بنفسه
الحوار ضمن القصيدة , قالت, قلتُ
وحدة القصيدة الموضوعية
لزوم البحور القصيرة
الرقة والطلاوة في الألفاظ والعبارات
خصائص الغزل الحجازى العذرى:
ان شعر الحب في العصر الاموى سواء اكان عذرياً ام حسياً، قد اسقط كثيراً من التقاليد الشعرية التي ورثها الاسلاميون عن الجاهليين، فنادراً ما نجد الشاعر الغزل يستهل قصيدته ببكاء الأطلال، فان فعل ذلك لم يجعل الاستهلال لمجرد تقليد لايتصل بموضوع ابياته، بل جعله ضمن نسيج شعره الغزلي، واستأثر الغزل بقصيدة الشاعر يعبر بها عن موقف نفسى واحد. فلم تتسع لاى غرض آخر من موضوعات الشعر التى كانت تضمها القصيدة الجاهلية بصورة تقليدية، كوصف الرحلة بكل ما فيها من صحرا وحيوان، ووصف الراحلة، فان حدث شي من هذا فى بعض قصائد الغزل المطولة- وقلما يحدث- حرض الشاعر علي ايجاد رابطه بين غزله ووصف رحلته وراحلته.
كذلك استأثر الغزل بشعراء فى هذا العصر، لم يتجاوزوا هذا الفن الي غيره، فكان العشق عندهم وجوداً اوحياة، فاستقلت بشعر الغزل دواوين كاملة، كما نري فى ديوان عمربن ابى ربيعة، جميل بن معمر وقيس بن ذريح وغيرهم، اوكان هذا الفن الغالب علي دواوين آخرين من الشعراء العذريين اوالحسيين.
غلب اللين الحضارى علي لغه شعر الغزل حتي عند شعراء البدو، فسهلت الألفاظ ورقت الي حد بعيد، نأت عن الغرابة وقوة الأسر، وكذلك الامر بالنسبة للجملة الشعرية التي اقتربت في تركيبها من لغة الكلام العادية، وخاصة عند ما حاكي الشعراء اقوال النساء بكل ما فيها من لين وضراعة.
خلاصه القول: «انه(الغزل) لم يخلص من السذاجة البدوية، ولم يبرأ من تأثير الحضارة الجديدة، ففيه من البداوة سذاجة تستخفك وتستصيبك، وفيه من الحضارة طلا يبعث فى نفسك الميل الي الاستقساء والاستطلاع. وانت تجد بعد هذا كله عذوبة ولذة فى هذا المزاج الذي يتألف منه الغزل الاموى، والذى يمثل لك هذا الشعب البادى وقد اخذ يحضر ويترف، ويحس علي بداوته كما يحس الحاضرون والمترفون.
زعيم الغزل الحجازى:
اول من تعهر فى شعره من العرب وشبب بالنساء، انما هو امرؤالقيس باجماع الرواة. وكان قبل امرؤالقيس خاله مهلهل، ولم يجيء بعد هذين الشاعرين من يتهالك في غزله غير النابغة الذبياني. وقد افحش فى بعض نسيببه افحاشاً كأنه رومى او فارسى، لطول ما صحب المناذرة والغساسنة.
فكان عمر زعيم الغزل الحضرى، فيما كان جميل زعيم الغزل البدوى، ولكن شعر جميل قد ضاع ولم يبق لنا منه الا شيء قليل جداً، فلم يبق سبيل إلي المقارنة بينه وبين عمر الذي حفظ الدهر لنا شعره كله او اكثره، والذي استقامت لنا اخباره وصحت لنا طائفة من الحوادث المتصلة بحياته، فاصبح من اليسير أن ندرسه ونعلن فيه رأياً صحيحاً او مقارباً. ومهما تكن مكانة جميل من شعراء البادية والحاضرة، فليس من شك فى ان عمر بن ابى ربيعة كان مقدماً عليه عند اهل عصره. ويجب ان يظل مقدماً عليه من الوجهة الفنية، أننا لانعرف شاعراً عربياً اموياً افتن فى الغزل افتنان عمر. فعمر إذن زعيم الغزليين الامويين جمعياً لانستثني منهم احداً، ولانفرق منهم بين اهل البادية واهل الحاضرة. بل نحن نذهب الي ابعد من هذا فنزعم ان عمر بن ابي ربيعة زعيم الغزليين فى الادب العربى كله، علي اختلاف ظروفه وتباين اطواره، منذ كان الشعر العربى الي الان.
الغزل الأباحي أُو الحضري أو العمري:
تعددت الدلالات علي طابع هذا الغزل عند النقاد، سماه بعضهم الأباحي، واعتبره البعض الآخر غزلاً مادياً ودعاه طه حسين «غزل المحققين» ولا تخلو نسبته الي هذه الظواهر المختلفة من الصدق.
فهو حضري لأنه ظهر في المدن، وکان شعراؤه من اهل الحضر الذين نالوا نصيباً کبيراً من ترف الحياه ونعيم العيش؛ وهو اباحي لأن منشديه لم يتورعوا فيه عن وصف لذائذ الوصال بين المرأه والرجل، وبالغوا في ذلک احياناً ولم يجدوا حرجاً في کثير من الأوقات. وهو مادي لتلک الأسباب التي ذکرنا، لأنه يصور أحاسيس الحب المادية.
وهو غزل واقعي، لأنه يعکس واقع المجتمع الحضري، ونفسية المرأة في ذلک العصر، ويدخل بنا الي ردهات تلک الحياة الناعمة، حيث لاذکر الا الهوي، ولا حديث الا عن العلاقة، ولا اهتمام الا بشؤون القلب وقدشاء الدکتور طه حسين ان يهتم بالجانب الذي يمس الغزليين في هذاالشعر فسمي اصحابه «المحققين» لأنهم اهتموا بالناحية العملية من الحب، وقصدوا الي الوصال ولم يذهبوا کالعذريين الي تصوير اليأس والحرمان واظهار العفة والبراءة.
هؤلاء الشعراء انقطعوا للغزل، او کادو ينقطعون له ولکنهم لم يلتسموا الحب في السحاب، ولم يتخذوا العفه مثلهم الأعلي، وانما عبثوا ولهوا واستمتعوا بالحياة، وتغنوا هذا العبث واللهو وقصروا شعرهم عليها، او جاوزوهما الي فنون اُخري من الشعر، ولکنهم لم يبلغوا منها ما بلغوا من الغزل. زعيم هؤلاء الشعراء عمر بن ابي ربيعه.
الغزل العمري تعبير عن طبقه متحررة منطلقة، تضع شهواتها وملاذها فوق کل شيء وتلوب في حياتها تنشد هذه الملاذ والشهوات. انها لم تنس نصيبها من الدنيا ولکنها نسيت نصيبها من الآخرة ولم تبتغ الدار الآخرة وانما ابتغت الفساد في الأرض… طبقة من سادة قريش وغير قريش وهو شبابها. عادت الي شي من حياة فيها غير قليل من بقايا الجاهلية فغلب عليها الخمر والفساد والاماء واتيت من هذا النحو.
فهو ايضاً التعبير عن العاطفة التي تکالبت علي اللذة في غير حرمان، فأصبح حکاية حال، ووصف الوان واشکال. وذکريات في غير حنين، تشکيات في غير أنين، وتصريحاً في غير اقتصاد، وتلبية لکل هو في غير تردد ولاغناء. ومن ثم فهو التجربة التي لايصقلها الألم، ولا يحرق أنفاسها الوجد والجوي، وهذا النوع من الشعر يحفل بمظاهر الحضارة الأناقة، وأساليب الأغرار والتحايل، ولکنه بعيد عن اغوار النفس، يمتد في العرض والهول، ضاحکاً في آلامه واعماله، حياً في حرکاته وحواره، جذاباً في لينه وعنائيته، الا انه قلما ينقل التجربة المؤثرة التي تهز الکيان وتبعث الأشجان.
وما من شک ان قصيدة الغزل الحضري في العصر الاموي تمتد بجذورها الي قصيدة الغزل الحضري التي عرفت عند امري القيس والأعشي علي وجه الخصوص، في العصر الجاهلي، غير انه ما من شک ايضاً، انها تجاوزتها بالآلاف الأشواط، وذلک لتجاوز الحياة الحضرية في العصر الاموي حضارة الماضي الجاهلي بالأشواط ايضاً.
يؤکد عميد الادب العربي، أن عمر بن ابي ربيعه هو زعيم الغزليين، وزعيم الشعراء العرب قاطبة إلي يومنا هذا، لأنه استطاع ان يمثل العصر الذي کان يعيش فيه، والبيئة التي کان يحيا فيها، فشعره يصور الحياة الحضرية في الحجاز علي حقيقتها، حيث کان سراة قريش والحجاز يقضون حياتهم الهادئة الفارغة، ويصلون بعضهم بألوان الصلاة المختلفة الحلوة. کذلک يصور حياة المرأة المترفة الارستقراطية، وحياة الشباب الحجازي الساعي إلي لهو ابناء السادات وترفهم الذين ضاق بهم الساحه السياسية، فأسرهم نعيم العيش وأسرهم. فضلاً عن ذلک، فعمربن ابي ربيعة، کان يعيش عيشة الرجل المترف الذي اتيحت لهم اسباب اللهو ووسائله، غير انه كان مقيداً بشرفه ومكانته وما الف الناس من الاوضاع الاجتماعية، بحسب رأي طه حسين، ولهذا اتي شعره صورة صادقة، وربما ناطق عن عصر اندرجت فيه الحضارة من الوضيع إلي الرفيع.
واذا کان لطه حسين ان يقابل بين عمر بن ابي ربيعة، واي شاعر آخر، فقد جعله بازاء شاعر الحب الفرنسي «الفرد دي موسيه «الذي انتجته الحضارة الفرنسية»».
فالحب الحسي الذي هو اثر من آثارالحضارة الفرنسية عند الفرد دي موسيه توافر ايضاً لزعيم العربي عمر بن ابي ربيعة الذي کان يمتليء بالحب الحسي، بحسب رأي طه حسين، نحن نري في ذلک شاهداً آخر علي عمق الأثر الحضري في شعر ابن أبي ربيعة.
الى هنا ذكرنا ان عمر ابن ابي ربيعة كان زعيم الغزل الاباحي ولكن نجد قد جاء في كتاب قصة الادب في الحجاز في العصر الجاهلي ان"سحيم عند الحسحاس هو الذي فتح باب الغزل المدي على مصراعه وهو لم يكن عربيا مما يدل على ان نشأة هذا الغزل المادي كانت اجنبية عن العرب فهو عبد اسود نوبي اشتراه عبد الله بن ابي ربيعة وعرضه على عثمان فرده واشتراه بنو الحسحاس وتأثر خطاه عمر بن ابي ربيعة وان لم يفحش مثله.
وبرأيي بما ان نرى نضوج هذا الجنس الشعري في العصر الاموي وخاصة عند عمر بن ابي ربيعة ولذا نعتبر عمر مبدع هذا الجنس الادبي.
وجملة القول: ان مدرسة الغزل الحضري، اذا کان لها ان تنهض بزعيمها عمر بن ابي ربيعة وبأرکانها العرجي والأحوص ويزيدبنالطئرية، فلأن هؤلاء کان لهم أن ينشأوا في حجور الحضارة العربية في العصر الاموي، وإن ينقطعوا للحياة في جبناتها فيشربوا من مائها ويناموا علي فراشها، مما اسهم في انتاج هذا اللون من شعر الغزل الذى جعل الحب يندرج علي الشفاه وينمو بين الحنايا، دون أن يزول.
منشأ هذا اللون من الغزل في حواضر الحجاز، بينا کانت نشأة الغزل العذري في بواديه، وترتبط هذه النشأة بالظروف التي احاطت بالحجاز منذ خلافة عثمان حتي قيام الدولة الاموية، والسياسة التي ترتبت عن انتقال الحکم من الخلافة الدينية القائمة علي الشوري الي ملک قائم علي الوارثة.
کان هدف السياسة الاموية- تجاه المعارضة القوية في الحجاز- عزل هذا الاقليم عن شؤون الدولة وسياستها، ووقف النشاط السياسي في الحجاز، لمکانة هذا الاقليم وتاثير آرائه وميوله في سائر الأقطار الاسلامية. ولم يکن بوسع الامويين دائماً اتباع سياسة العنف في الحجاز، منعاً لتفجر الموقف وازدياد خطورته لأن سكانه هم الذين نهضوا بالدعوة، وبذلوا للفتح. فعمد الامويون الي اساليب خاصة لتحقيق هذه العزلة کان في مقدمتها نقل عاصمة الخلافة إلي الشام. وبذلک ضمنوا تحويل النشاط الادارى عن مدن الحجاز، بحيث بات اقليماً عادياً، فخسر مرکز الزعامة الذي کان له ايام الراشدين، ثم احاط بنوامية هذا الاقليم بجو من الدعة حين هيأوا له اسباب اليسار والثروة، ووفروا فيه عومل اللهو.
وقد تلاقي هذا المنهح السياسي مع الشعور الذي کان يغمر الحجاز، وهو مزيج من الخيبة واليأس في ناحية، والنقمة والحقد في ناحية ثانية، فکان لابد للحجازيين من الاستکانه والاذعان للأمر الواقع. حقاً انهم اصحاب الحق-ولکنه غير قادر علي المقاومة، وشرعي الشرعيه لکنها بلاسلطه. فليکن اغراق في النعيم وتعويض عن وجاهة الزعامة، بوجاهة الغني والبذخ، وتحول من حياة الجهاد الي حياة الترف.
و هکذا أقبل الحجاز، سواء في ذلک انصار بني امية ومعارضوهم، راغبين او کارهين، علي هذه الحياة الجديدة، حيث کثرت الجواري وشاع الغناء، واتجه الشعر مع هذا الاتباع علي الغزل، يري فيه الحجازيون وسيلة لعلاج مشاعر الحقد والقنوط.
وان مؤلفي قصة الأدب في الحجاز في العصر الاموي يران ان الاماء وثأثيرها على الشعر كانت موجودة في العصر الجاهلي وفي الادلاء بآرآءهما قد جاءا بهذا الكلام"و الظاهر انه نشأفي البيءة الحجازية من تأثير الاماء اللواتي كن لا يتحررن ولا يبالغن في العفة وكن لا يأتين الى الحجاز من طرق شتى.و يكفي ان نعرف ان جوائز الملوك الشعراء تكون من الاماء بعض الاحيان.و قال النابغة يمدح النعمان بأنه يبذل الاماء المنعمات في هباته جنبا الى جنب مع الابل الغلاط الشداد:
الـواهب المأئة المعكاء زينها
سعـدان توضح في اوبارها اللبد
الراكضـات ذيول الريط فانقها
برد الهـواجر كالغرلان بالجـرد
و بسبب شيوع الغناء، وشيوع مدارس وجوقاته واجوائه واندائه ومنتدياته في جميع مدن الحجاز ونواحيه کان لابد من ظهور فريق من الشعراء بجانب المغنيين والمغنيات. يمدونهم بالقصائد والاشعار التي هي مادة الغناء الاولي.و قد وجد شعراء المدرسة الحضرية انفسهم وهم يلازمون هؤلاء المغنيين والمغنيات، ويقدمون لهم احدث القصائد والمقطوعات التي تتلاءم مع ذوق الخاصة والعامة، في ظلال النعيم والدعة والفراغ.
ان شعر عمربن ابي ربيعة واصحابه الحجازيين مع مداره علي الغزل فقط ومع قربه مرة من الخلاعة لم ينحط ابداً الي الفحش والمجون المحض الکثير، وجوده في غزل شعراء عهد العباسيين ثم من الجدير بالذکر ايضاً انّ عمر بن ابي ربيعة واکثر شعراء الحجاز لاسيما مکة في زمن الامويين الي اوائل القرن الثاني امتنعوا عن باب الخمريات في شعرهم امتناعاً تاماً ولم يذکروا الخمر الا في التشابيه، وذلک مع ان شرب الخمر غير مجهول في ذلک العصر بالمدينة.
ولم يکن عيش وشعر عمر الا في الغزل. فمن المعروف ان عمر بن عبدالعزيز نفاه الي جزيره دهلک لفرط تشبيبه بنساء ذوات الأخطار من اهل المدينة. ثم عفي عنه ومات بدمشق بعد المأئة بسنين قليلة.
ميزاته:
ومن ميزات هذا الغزل عدم ثبات الشعراء علي امرأة واحدة بل کانوا دائمي النقلة کالنحلة من زهرة إلي اخري مما دعا الي کثرة الأسماء عندهم کما سار اکثرهم علي نهج قصصى شأن بعض الشعراء الجاهليين، وان کان بعض الدارسين يعدون عمر بن ابي ربيعة، مبتکراً له مجاراة للدکتور طه حسين الذي استنکر واستعبد ان يکون امري القيس رائد الاسلوب القصصى ومن البوادر الجديدة في الغزل الحسى الاموى کثرة الرسل والاشارة الي الرسائل الغزلية مع النساء.
أما الشعر الغزلي الحسى او الصريح کما يسميه بعض الباحثين فهو يصور احاسيس الحب ومغامراته فى المجتمع المتحضر الذى ظفرت فيه المرأة العربية بقدر كبير من التحرر, وكانت لا تضيق بما يقال فيها من غزل. ويتميز هذاالعصر ببعده عن العواطف المجردة والتعبير عن الشهوات الحسية واهتمامه بمحاسن المرأة وجمالها الجسدى ووصف تمتع الشاعر بها. ويري احد الباحثين ان المتمعن في شعر عمربن ابي ربيعة لا يري تلک النزعة الحسية التي يشير اليها کثير من الدارسين، فغاية الشاعر الاولي کانت غاية فنية، يقصد بها أن يفلح في رواية تلک الحرکة المادية النفسية للزائر العاشق، والمزورة المشدودة بين الحب والرجل. وذلک الحوار الدرامي القريب من لغة الحياة. أو لغة النساء، المفصح احياناً عن کثيرمن الخلجات النفسية الدقيقة. ولم يکن هم الشاعر ان يصف متعة او يتحدث عن شهواته، او يصف محاسن صاحبته وصفاً حسياً تفصيلياً… فالقصيدة تنتهي في اغلب الأحيان بالأشارة الي متعة حسية يسيرة لا تناسب مع الجهد الذي صوره الشاعر قبل.
فى هذا المجال يؤکد الدکتور شکري فيصل: ان غزل عمر بن ابي ربيعه، کان ينطبع بطابع الغزل الحضرى، ويعلل رأيه هذا باسباب عدة. منها، " غياب الأطلال في المطلع… فلم يبدأ عمر بها ولم ينطلق منها، ولم يجد انه مربوط ما ارتبط به الجاهليون… وانما کان منطلقة فيما رأينا، ذاته التي حرمت الوصل وعاشت علي المواعيد… ومنها بدا وان عمر خالف عن سنة العربى الجاهلى، وان هذه المخالفة کانت استجابة لهذه الحياة الحضرية التي کان يحياها وتمثيلاً بها وتعبيراً عنها"
کان عمر يقتصر القصيدة علي الغزل فلايکاد يقول الا غزلاً، ثم انه لم يقل الا فى الغزل، ومع ان عمر بن ابي ربيعه لم يبتکر شيئاً من خصائص الغزل العامة، فانه قد جمع معظم هذه الخصائص في شعره واجري الغزل فى قصص وحوار حيناً وفي نقاش وامتناع حيناً آخر. ومثل ذلک فعل نفر کيثرون من الشعراء المغامرين الذين کانوا يتبعون الجمال ويهيمون بالمرأة هياماً يجرون فيه علي مقتضي الطبيعة البشرية
وغزل عمر لذلک بديعٌ، لأننا نتسطيع ان تنفذ منه الي معرفة کثير من المحرکات النفسية للمجتمع العربي فى مكة والمدينة وما أصابه من تبدل تحت تأثير الحضارة الجديدة،ذ أتاح لنا بواسطة هذا الحوار المفتوح في الديوان بين السيدات علي جماله وفتنته ان نتعرف الي کثير من جوانب الحياة المعاصرة له، وخاصة حياة النساء وما نلن من حظوظ في الحرية، وايضاً فانه کشف في احاديثهن عن جوانب کثيرة من نفسياتهن وما يتغلغل فيها من تُرّهات وخلجاف ووجدانات.
ومحور الغزل هو عمر نفسه وعشق النساء له، ولکن سقط في اثناء ذلک کل ما يصور المرأة المعاصرة له في مکة والمدينة بواسطة هذه الأحاديث التي يجريها بين النساء أو هذا الحوار الذي يلفت کل من يقرأ غزله. وبما کانت هذه هي الخاصة الثانية الکبيرة في ديوانه: ففيه حوار مفتوح لاينضب معينه ولاتجِفُّ قطراته في نفسه. ومن هنا کان لغزله طابع ثان يخالف فيه طابع الغزل العربي کله الا مايأتي نادراً، ونقصد طابع القصص والحوار الذى يشيع في شعره، وهو طابع يعدُّ لطابع الأول، طابع المعشوق لا العاشق، فانه اتي النساء في شعره لاليبثهن بتاريخ الحبّ، ولا ليصف جمالهن، ولاليشکو عن هجرهن ويصف آلامه, وانما جاء بهن ليعبرن عما ينفث من لواعج الحب فيهن، وليصفن حسنه البديع، ومايتألمّن به من هجره وصدّه، فهي مصورات في شعره, مشغولات به, هائمات بجماله، تتردّد الأحاديث بينهن في فنه واغرائه
الحوار القصصي:
واما القصص والحوار فنأخذهما بمعناهما العام، فلانفني الروايه بکل ما فيها من فنٍ قصصي وعقدة ومتعة فينة، ولا يعني الحوار التمثيلي الذي يجرى علي المسارح؛ انما نعني الحديث المنظوم الذى يکاد يتفرد فيه ابن ابي ربيعة.
وهذا الحوار معروف في الادب الجاهلى، فقد أتي امرؤالقيس بالقصص والحوار في شعره، الا ان ابن ابي ربيعة قصد الي ذلک قصداً وجعله قوام فنه الشعري، فبسط فيه القول، والقي علي حلاوة ولباقة وبلاغة لم تجمتع لغيره.
و يقوم ابداع عمر في فنه هذا بأن تجرى فيه الدقة الواقعيية، واذا النساءيظهرن فيه بأخلاقهن، واشاراتهن، وحرکاتهن، واذا هن يطلبنه ودائماً، ويتحدثن عنه في غيابه، ويتغزلن به اکثر مما يتغزل بهن، ويلقين عليه النعوت الجميلة فکان عمر لايهتم للفن الشعرى بقدر ما يهتم لأدخال لغة النساء فيه:
بينـما ينعتنـي أبصرننـي
دون قيد الميل يعدو بي الأغـزٍ
قالتٍ الکبري أتعرض الفتي؟
قالت الوسطي «نعم هذا عمـر!»
قالت الصغـري، وقد تيمتُها
«قد عرفناه، وهل يخفي القمر؟»
سمات الغزل العذري
تجاوز الشعراء العذريون في قصائدهم اتجاهات الشعراء الغزليين الجاهليين وكذلك تميزوا عن الشعراء الذين
عاصروهم من اصحاب الغزل الصريح فبدت اشعارهم نسيجا جديدا في الشعر الغزلي عند العرب له خصائصه
وسماته لكن هذه الخصائص لا تستغرق الشعر الغذري كله وانما هي تتباين وتفترق في بعض الجزئيات منشاعرالى اخر
المرأة في الغزل الحضرى:
والمرأة العربية في عصر ابن ابي ربيعة هي امرأة متحضرة، وقداتيح لها من الفراغ واسباب زينة الحياة مالم يتح للمرأة الجاهلية.
واذا رصدنا جوانب هذه الحياة الحضرية، فقد نجد کيف نضت عنها ملابس المرأة المتحضرة وحيها وطيبها في اشعار عمر بن ابي ربيعة وارکان مدرسته الأحوص والعرجى. فصورة المرأة کما تعکسها لنا قصيدة الغزل الحضري في العصر الاموي، هي صورة منعمة مترفة، تحف بها الجواري،يسلينها ويعدون لها من افانين الهوي واللعب واللهو، ما تقطع به وقتها قطعاً هنيئاً وفي ظل هذا المجتمع الجديد کانت النساء يصبن شيئاً من الحرية، فکثر الاختلاط بين الرجال وبينهن، مما نحا بالشعراء ان يقفوا وقفة شاهد حى علي تجربة جديدة هي اثر من آثار المدنية ,فلا عهد لنا من قبل بشاعر ليحدث بلسان النساء فأباح بما يملأ قلوبهن من غيره، ومايدور في نفوسهن من خلجات انثوية صادقة.
کان عمر اشهر اهل الحجاز يومئذ بالظرف والدقة وطباع الغزل. وخلقت تلک البيئة عمر خلقاً نسائياً، حتي کأنما کن ينجذبن اليه للمناسبة الجنسية،… فقد کان في ايام الحج يلبس حلل الوشي ويرکب النجائب، المخضوبة بالحناء عليها المقطوع والديباج ويسبل لمته ويخرج يتلقي العراقيات الي ذات عرق، وتتلقي المدنيات الي مرّ ويتلقي الي الکرير وکل دلک التماساً للغزل وطلباً لمأتاه.
وشخصية المرأة عند شعراء الاتجاه الحسى ثانوية بالنسبة الرجل، وخاصة في شعر عمر بن ابي ربيعة وهي اداة للمتعة وهي مدلهة في حب صاحبها الذي يبدو دائماً قادراً عليها، وهي التى تشکو وتتعذب وتستعطف.
لغة هذا الغزل:
فقد اخذ شعر الغزل في المدرسة الحضرية، ينمو نحو تأسيس لغة شعرية جديدة، تقوم علي هجر الألفاظ الغريبة، وبناءها بناء سهل، يتلاءم مع حياة الناس الجديدة التي تحضّرت حتي يقتربوا منهم في لغتهم اليومية ولهذا فقد جاء هذا الشعر قريباً کل القريب من حياتهم ومن مجتمعهم، هو يقرب من هذه الحياة، وذلک المجتمع فى العواطف التى يصورها، کما يقرب منها فى اللغة التى يتحدث بها الناس.
واقترب الشاعر من لغة الکلام العادى، وخاصة حين اجري الحوار علي لسان المحبوبة وجعله واقعيياً محضا ًفي لفظه وصياغته وايقاعه.
اوزان الغزل العمرى:
يختلف العروض فى ديوان عمر بن ابي ربيعة عن عروض شعراء عالم البداوة ويتميز ايضاً عن عروض شعراء الجاهلية، وهو يقرن-بالعكس- بالعروض المستعمل في ديوان العرجى مثلاً، فان البحور (التقليدية) ممثلة بوفرة في الديوان وبخاصة بحر الطويل، وبدرجة اقل الکامل والوافر، ويجدر الاشارة الي ان الکامل يبدو في الديوان مجزوءاً، وعلي کل حال، فان البحور الأکثر غنائية، نموذجياً تسيطر في الديوان وفي طليعتها الخفيف والزجل والرمل. ويحمل هذا التقرير علي الاعتقاد بأن هذا الأثر الشعري مؤلف قبل کل شيء، من قطع ومقطوعات معدة للغناء.
قول شوقى ضيف: نستطيع ان نلاحظ هذا التلاؤم عند عمر فى جانبين من ديوانه، او قل من موسيقي شعره، اما الجانب الاول فهو استخدامه للأوزان الخفيفة، کما يلاحظ من يقرأ الأشعار التى استشهدنا بها فيها، وهي اوزان کانت تلائم الغناء الجديد من مثل اوزان سريع والخفيف والوافر والرّمل والمتقارب، وکانت هذه الألوان موجودة في العصر الجاهلي، وعمر من هذه الناحية لم يوجد وزناً جديداً،و انما اکثر من استعمال الاوزان السهلة، التي لايحتاج مجهوداً من المغنى، والتى فى الوقت نفسه تتيح له ما يريد أن يحمّلها من الحان وايقاعات، ولذلک عني بهذه الألوان حتي يخفف علي المغنين والمغنيات.
واما الجانب الثانى، فهو جانب تقصير الأوزان وتجزئتها, وهو ايضاً جانب واضح فيما استشهدنا له من اشعار، وهو جانب کان موجوداً في القديم، ولکن عمر اکثر منه اکثاراً، حتي ليکاد يکون خاصة من خصائص ديوانه، فکثير من غزله بنى من مجزوءات: حتي يهيئ للمغنين والمغنيات الفرصة لتطبيق الحانهم وانغامهم التي اجتلبوها من فارس او الروم.
والصورة العامة في اوزان عمر أنها اوزان سهلة خفيفة، وان کثيراً منها جزّئ، حتي يکون خفيفاً علي هؤلاء المغنين من الأجانب، ونحن نظن ظناً ان تحريفات کثيرة وقعت، وان کانت کلها تستهلکها نظرية الزحاف والعلل التى اتي بها الخليل بن احمد، اذ قال ان کل تفعيلة من حقها أن تُعُلّ عللاً کثيرة، بتسکين المتحرک فيها، او حذف ساکنها، ونحو ذلک.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق